الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ } * { وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ٱبْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِٱلْحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ } * { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ } * { سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ } * { وَٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي ٱلأَرْضِ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمُ ٱللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوۤءُ ٱلدَّارِ }

{ وَٱلَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ } من الرحِم وموالاةِ المؤمنين والإيمانِ بجميع الأنبـياء المجمعين على الحق من غير تفريقٍ بـين أحد منهم، ويندرج فيه مراعاةُ جميعِ حقوقِ الناس في حقوق كل ما يتعلق بهم من الهرّ والدَّجاج { وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } خشيةَ جلالٍ وهَيْبةٍ فلا يعصونه فيما أمر به { وَيَخَافُونَ سوء الحِسَابِ } فيحاسبون أنفسَهم قبل أن يحاسَبوا، وفيه دَلالةٌ على كمال فظاعتِه حسبما ذكر فيما قبل.

{ وَالَّذِينَ صَبَرُواْ } على كل ما تكره النفسُ من الأفعال والتروك { ٱبْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِمْ } طلباً لرضاه خاصة من غير أن ينظروا إلى جانب الخلقِ رياءً وسُمعةً ولا إلى جانب النفس زينةً وعُجْباً، وحيث كان الصبرُ على الوجه المذكور مَلاكَ الأمرِ في كل ما ذكر من الصلاة السابقة واللاحقةِ أُورد على صيغة الماضي اعتناءً بشأنه ودِلالةً على وجوب تحققِه فإن ذلك مما لا بد منه إما في أنفس الصلات كما فيما عدا الأولى والرابعةِ والخامسةِ أو في إظهار أحكامِها كما في الصلات الثلاثِ المذكورات فإنها وإن استغنت عن الصبر في أنفسها حيث لا مشقةَ على النفس في الاعتراف بالربوبـية والخشيةِ والخوف لكن إظهارَ أحكامِها والجريَ على موجبها غيرُ خالٍ عن الاحتياج إليه { وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ } المفروضة { وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ } أي بعضَه الذي يجب عليهم إنفاقُه { سِرّا } لمن لم يُعرفْ بالمال أو لمن لا يتهم بترك الزكاةِ أو عند إنفاقِه وإعطائه مَنْ تمنعه المروءةُ من أخذه ظاهراً { وَعَلاَنِيَةً } لمن لم يكن كما ذكر أو الأول في التطوع والثاني في الفرض.

{ وَيَدْرَؤُنَ بِٱلْحَسَنَةِ ٱلسَّيّئَةَ } أي يُجازون الإساءةَ بالإحسان أو يُتْبعون الحسنةَ السيئة فتمحوها. عن ابن عباس رضي الله عنهما: يدفعون بالحسن من الكلام ما يرد عليهم من سيـيء غيرِهم. وعن الحسن: إذا حُرموا أعطَوا وإذا ظُلموا عفَوا وإذا قُطعوا وصلوا. وعن ابن كيسان: إذا أذنبوا تابوا. وقيل: إذا رأوا منكراً أمروا بتغيـيره. وتقديمُ المجرور على المنصوب لإظهار كمالِ العنايةِ بالحسنة { أُوْلَـٰئِكَ } المنعوتون بالنعوت الجليلةِ والملكات الجميلةِ وهو مبتدأٌ خبُره الجملةُ الظرفية أعني قوله تعالى: { لَهُمْ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ } أي عاقبةُ الدنيا وما ينبغي أن يكون مآلُ أمرِ أهلها وهي الجنة، وقيل: الجارُ والمجرور خبرٌ لأولئك و(عقبى الدار) فاعل الاستقرار وأياً ما كان فليس فيه قصرٌ حتى يرِد أن بعضَ ما في حيز الصلةِ ليس من العزائم التي يُخلّ إخلالُها بالموصول إلى حسن العاقبة، والجملةُ خبرٌ للموصولات المتعاطفةِ، صفاتٌ لأولي الألباب عن طريقة المدحِ من غير أن يُقصد أن يكون للصلات المذكورة مدخلٌ في التذكر.

{ جَنَّـٰتِ عَدْنٍ } بدلٌ من عُقبى الدار أو مبتدأٌ خبرُه { يَدْخُلُونَهَا } والعدْنُ الإقامةُ ثم صار علماً لجنة من الجنات أي جناتٌ يقيمون فيها، وقيل: هو بُطنانُ الجنة { وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءابَائِهِمْ } جمعُ أبَوَيْ كل واحد منهم فكأنه قيل: من آبائهم وأمهاتهم { وَأَزْوٰجِهِمْ وَذُرّيَّـٰتِهِمْ } وهو عطفٌ على المرفوع في يدخلون، وإنما ساغ ذلك للفصل بالضمير الآخر، أو مفعولٌ معه، والمعنى إنه يُلحق بهم مَنْ صلح من أهلهم وإن لم يبلُغْ مبلغَ فضلِهم تبعاً لهم تعظيماً لشأنهم، وهو دليلٌ على أنه الدرجةَ تعلو بالشفاعة وأن الموصوفَ بتلك الصفات يُقرن بعضُهم ببعض لما بـينهم من القرابة والوصلة في دخول الجنةِ زيادةً في أُنسهم، وفي التقيـيد بالصلاح قطعٌ للأطماع الفارغة لمن يتمسك بمجرد حبل الأنساب { وَالمَلَـٰئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ } من أبواب المنازل أو من أبواب الفتوحِ والتحف قائلين: { سَلَـٰمٌ عَلَيْكُم } بشارةٌ لهم بدوام السلامة { بِمَا صَبَرْتُمْ } متعلق بعليكم أو بمحذوف أي هذه الكرامةُ العظمى بما صبرتم أي بسبب صبركم أو بدلُ ما احتملتم من مشاقّ الصبرِ ومتاعبِه، والمعنى لئن تعِبتم في الدنيا لقد استرحتم الساعةَ، وتخصيصُ الصبر بما ذكر من بـين الصلاتِ السابقةِ لما قدّمناه من أن له دخلاً في كل منها ومزيةً زائدةً من حيث إنه ملاكُ الأمر في كل منها وأن شيئاً منها لا يعتد به إلا بأن يكون لابتغاء وجهِ الربّ تعالى وتقدس { فَنِعْمَ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ } أي فنعم عقبـي الدارِ الجنةُ، وقرىء بفتح النون والأصل نَعَم فسُكّن العين بنقل حركتها إلى النون تارة وبدونه أخرى.

السابقالتالي
2 3