الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ ٱطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ } * { قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَٰبَتِ ٱلْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ ٱلسَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ }

{ ٱقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ ٱطْرَحُوهُ أَرْضًا } من جملة ما حُكي بعد قوله إذا قالوا وقد قاله بعضٌ منهم مخاطباً للباقين بقضية الصيغة فكأنهم رضُوا بذلك كما يروى أن القائلَ شمعونُ أو دان، والباقون كانوا راضين إلا من قال: لا تقتلوا الخ، فجعلوا كأنهم القائلون وأُدرجوا تحت القولِ المسندِ إلى الجميع أو قاله كلُّ واحدٍ منهم مخاطباً للبقية وهو أدلُّ على مسارعتهم إلى ذلك القولِ. وتنكيرُ أرضاً وإخلاؤها من الوصف للإبهام أي أرضاً منكورةً مجهولة بعيدةً من العُمران ولذلك نصبت نصبَ الظروفِ المُبهمة { يَخْلُ } بالجزم جوابٌ للأمر أي يخلُصْ { لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ } فيُقبل عليكم بكلّيته ولا يلتفتْ عنكم إلى غيركم ولا يساهمكم في محبته أحدٌ فذكرُ الوجه لتصوير معنى إقبالِه عليهم { وَتَكُونُواْ } بالجزم عطفاً على يخْلُ أو بالنصب على إضمار أنْ أو الواو بمعنى مع مثل قوله:وَتَكْتُمُواْ ٱلْحَقَّ } [البقرة: 42] وإيثارُ الخطابِ في لكم وما بعده للمبالغة في حملهم على القبول فإن اعتناءَ المرءِ بشأن نفسِه واهتمامَه بتحصيل منافعِه أتمُّ وأكمل { مِن بَعْدِهِ } من بعد يوسفَ أي من بعد الفراغِ من أمره أو طرحه { قَوْمًا صَـٰلِحِينَ } تائبـين إلى الله تعالى عما جنيتم أو صالحين مع أبـيكم بإصلاح ما بـينكم وبـينه بعذر تمهّدونه أو صالحين في أمور دنياكم بانتظامها بعده بخلُوّ وجه أبـيكم { قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ } هو يهوذا وكان أحسنَهم فيه رأياً وهو الذي قال:فَلَنْ أَبْرَحَ ٱلأَرْضَ } [يوسف: 80] الخ، وقيل: روبـيل وهو استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال من سأل وقال: اتفقوا على ما عُرض عليهم من خصلتي الضّيْع أم خالفهم في ذلك أحدٌ فقيل: قال قائل منهم: { لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ } أظهره في مقام الإضمار استجلاباً لشفقتهم عليه أو استعظاماً لقتله وهو هو، فإنه يروى أنه قال لهم: القتلُ عظيمٌ ولم يصرّح بنهيهم عن الخَصلة الأخرى وأحاله على أولوية ما عرضه عليهم بقوله: { وَأَلْقُوهُ فِى غَيَابَةِ ٱلْجُبّ } أي في قعره وغوره. سُمِّي بها لغَيبته عن عين الناظرِ، والجبّ البئرُ التي لم تُطْوَ بعدُ لأنها أرضٌ جُبّت جباً من غير أن يُزاد على ذلك شيءٌ، وقرأ نافعٌ في غيابات الجب في الموضعين كأن لتلك الجبّ غياباتٍ أو أراد بالجب الجنسَ أي في بعض غيابات الجبِّ وقرىء غيابات وغيبة { يَلْتَقِطْهُ } يأخذْه على وجه الصيانة عن الضياع والتلف فإن الالتقاطَ أخذُ شيءٍ مشرف على الضياع { بَعْضُ ٱلسَّيَّارَةِ } أي بعض طائفةٍ تسير في الأرض واللام في السيارة كما في الجب وما فيهما وفي البعض من الإبهام لتحقيق ما يتوخاه من ترويج كلامِه بموافقته لغرضهم الذي هو تنائي يوسفَ عنهم بحيث لا يُدرىٰ أثرُه ولا يروىٰ خبرُه وقرىء تلتقطْه على التأنيث لأن بعضَ السيارة سيارةٌ كقوله:
[وتَشْرَقُ بالقولِ الذي قد أذَعْتُهُ]   كما شرِقَتْ صدرُ القناةِ من الدمِ
ومنه قُطعت بعضُ أصابعه { إِن كُنتُمْ فَـٰعِلِينَ } بمشورتي، لم يبُتَّ القول عليهم بل إنما عرض عليهم ذلك تألفاً لقلبهم وتوجيهاً لهم إلى رأيه وحذراً من نسبتهم له إلى التحكم والافتيات، أو إن كنتم فاعلين ما أزمعتم عليه من إزالته من عند أبـيه لا محالة ولما كان هذا مظنةً لسؤال سائل يقول: فما فعلوا بعد ذلك قبِلوا ذلك منه أو لا؟ أجيب بطريق الاستئناف على وجه أُدرج في تضاعيفه قبولُهم له بما سيجيء من قوله:وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِى غَيَابَةِ ٱلْجُبّ } [يوسف: 15] فقيل: