الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } * { قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّـآ إِذاً لَّظَالِمُونَ } * { فَلَمَّا ٱسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوۤاْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً مِّنَ ٱللَّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ ٱلأَرْضَ حَتَّىٰ يَأْذَنَ لِيۤ أَبِيۤ أَوْ يَحْكُمَ ٱللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَاكِمِينَ }

{ قَالُواْ } عندما شاهدوا مخايلَ أخْذِ بنيامين مستعطِفين { قَالُواْ يا أَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا } لم يريدوا بذلك الإخبارَ بأن له أباً ذلك معلومٌ مما سبق وإنما أرادوا الإخبار بأن له أباً { شَيْخًا كَبِيرًا } في السن لا يكاد يستطيع فراقَه وهو عَلالةٌ به يتعلل عن شقيقه الهالك { فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ } فلسنا عنده بمنزلته من المحبة والشفقة { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } إلينا فأتمم إحسانَك بهذه التتمة أو المتعوّدين بالإحسان فلا تغيّر عادتك.

{ قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِ } أي نعوذ بالله معاذاً من { أَن نَّأْخُذَ } فحُذف الفعلُ وأُقيم مُقامَه المصدرُ مضافاً إلى المفعول به بعد حذفِ الجارِّ { إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَـٰعَنَا عِندَهُ } لأن أخْذنا له إنما هو بقضية فتواكم فليس لنا الإخلالُ بموجبها، وإيثارُ صيغة التكلم مع الغير كون الخطابِ من جانب إخوتِه على التوحيد من باب السلوكِ إلى سنن الملوك، أو للإشعار بأن الأخذَ والإعطاءَ ليس مما يُستبدّ به بل هو منوطٌ بآراء أولي الحلِّ والعقد، وإيثارُ (مَنْ وجدنا متاعنا عنده) دون مَنْ سرق متاعنا لتحقيق الحقِّ والاحتراز عن الكذب في الكلام مع تمام المرام فإنهم لا يحمِلون وُجدان الصُّواعِ في الرحل على محمل غيرِ السرقة { إِنَّا إِذَاً } أي إذا أخذنا غيرَ من وجدنا متاعنا عنده ولو برضاه { لَّظَـٰلِمُونَ } في مذهبكم وما لنا ذلك، وهذا المعنى هو الذي أريد بالكلام في أثناء الحوارِ، وله معنى باطنٌ هو أن الله عز وجل إنما أمرني بالوحي أن آخذَ بنيامينَ لمصالحَ علمها الله في ذلك فلو أخذتُ غيرَه كنت ظالماً وعاملاً بخلاف الوحي.

{ فَلَمَّا ٱسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ } أي يئسوا من يوسف وإجابتِه لهم أشدَّ يأس بدِلالة صيغة الاستفعال، وإنما حصَلت لهم هذه المرتبةُ من اليأس لِما شاهدوه من عَوْذه بالله مما طلبوه الدالِّ على كون ذلك عنده في أقصى مراتب الكراهةِ وأنه مما يجب أن يُحترز عنه ويُعاذَ منه بالله عز وجل ومن تسميته ظلماً بقوله: { إِنَّـا إِذًا لَّظَـٰلِمُونَ } { خَلَصُواْ } اعتزلوا وانفردوا عن الناس { نَجِيّاً } أي ذوي نجوى على أن يكون بمعنى النجوى والتناجي أو فوجاً نجياً على أن يكون بمعنى المناجى كالعشير والسمير بمعنى المعاشر والمسامر ومنه قوله تعالى:وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً } [مريم: 52] ويجوز أن يقال: هم نَجيٌّ، كما يقال: هم صديق لأنه بزنة المصادر من الزفير والزئير { قَالَ كَبِيرُهُمْ } في السن وهو روبـيلُ أو في العقل وهو يهوذا أو رئيسهم وهو شمعون { أَلَمْ تَعْلَمُواْ } كأنهم أجمعوا عند التناجي على الانقلاب جملةً ولم يرضَ به فقال منكِراً عليهم: ألم تعلموا { أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقًا مّنَ ٱللَّهِ } عهداً يوثق به وهو حِلفُهم بالله تعالى، وكونُه من الله لإذنه فيه وكونِ الحلف باسمه الكريم { وَمِن قَبْلُ } أي ومن قبل هذا { مَا فَرَّطتُمْ فِى يُوسُفَ } قصرتم في شأنه ولم تحفظوا عهدَ أبـيكم وقد قلتم: وإنا له لناصحون، وإنا له لحافظون، وما مزيدةٌ أو مصدرية، ومحلُّ المصدر النصبُ عطفاً على مفعول تعلموا أي ألم تعلموا أخذَ أبـيكم عليكم موثقاً وتفريطَكم السابقَ في شأن يوسف عليه السلام، ولا ضير في الفصل بـين العاطفِ والمعطوفِ بالظرف وقد جوّز النصبُ عطفاً على اسم أن والخبر في يوسف أو من قبل على معنى ألم تعلموا أن تفريطَكم السابق وقع في شأن يوسف عليه السلام أو أن تفريطَكم الكائنَ أو كائناً في شأن يوسف عليه السلام وقع من قبل، وفيه أن مقتضى المقام إنما هو الإخبارُ بوقوع ذلك التفريطِ لا بكون تفريطِهم السابقِ واقعاً في شأن يوسف كما هو مفادُ الأول، ولا بكون تفريطِهم الكائنِ في شأنه واقعاً من قبل كما هو مفادُ الثاني على أن الظرفَ المقطوعَ عن الإضافة لا يقع خبراً ولا صفة ولا صلة ولا حالاً عند البعض كما تقرر في موضعه، وقيل: محلُّه الرفعُ على الابتداء والخبرُ من قبلُ وفيه ما فيه، وقيل: ما موصولةٌ أو موصوفة ومحلها النصبُ أو الرفعُ والحقُّ هو النصبُ عطفاً على مفعول تعلموا أي ما فرطتموه بمعنى قدمتموه في حقه من الخيانة، وأما النصبُ عطفاً على اسم أن أو الرفعُ على الابتداء فقد عرفتَ حاله { فَلَنْ أَبْرَحَ ٱلأَرْضَ } متفرِّعٌ على ما ذكَره وذكره إياهم من ميثاق أبـيه وقوله:

السابقالتالي
2