الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ } * { قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلظَّالِمِينَ } * { فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ ٱسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِ كَذٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ ٱلْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ }

{ قَالُواْ } أي أصحاب يوسف عليه السلام { فَمَا جَزَاؤُهُ } الضمير للصُّواع على حذف المضاف أي فما جزاء سرقتِه عندكم وفي شريعتكم { إِن كُنتُمْ كَـٰذِبِينَ } لا في دعوى البراءةِ عن السرقة فإنهم صادقون فيها بل فيما يستلزمه ذلك من نفي كون الصواعِ فيهم كما يؤذِن به قوله عز وجل: { قَالُواْ جَزؤُهُ مَن وُجِدَ } أي أخْذُ مَنْ وُجد الصواع { فِى رَحْلِهِ } حيث ذكر بعنوان الوُجدان في الرحل دون عنوان السرقةِ وإن كان مستلزِماً لها في اعتقادهم المبنيِّ على قواعد العادة، ولذلك أجابوا بما أجابوا فإن الأخذَ والاسترقاقَ سنةً إنما هو جزاءُ السارقِ دون من وُجد في يده مالُ غيره كيفما كان فتأمل واحمِلْ كلام كل فريقٍ على ما لا يزاحِم رأيَه فإنه أقربُ إلى معنى الكيد وأبعدُ من الافتراء، وقوله تعالى: { فَهُوَ جَزَاؤُهُ } تقريرٌ لذلك الحكمِ أي فأخذُه جزاؤه كقولك: حقُّ الضيف أن يكرم فهو حقه، ويجوز أن يكون جزاؤه مبتدأً والجملة الشرطية كما هي خبرُه على إقامة الظاهر مُقامَ المضمر، والأصل جزاؤُه من وجد في رحله، فهو على أن الأول لمن والثاني للظاهر الذي وضع موضعه { كَذٰلِكَ } أي مثل ذلك الجزاءِ الأوفى { نَجْزِى ٱلظَّـٰلِمِينَ } بالسرقة، تأكيدٌ للحكم المذكور غِبَّ تأكيدٍ وبـيانٌ لقبح السرقة ولقد فعلوا ذلك ثقةً بكمال براءتِهم عنها وهم عما فُعل غافلون.

{ فَبَدَأَ } يوسف بعد ما رجَعوا إليه للتفتيش { بِأَوْعِيَتِهِمْ } بأوعية الإخوةِ العشرةِ أي بتفتيشها { قَبْلَ } تفتيش { وِعَاء أَخِيهِ } بنيامين لنفي التهمة. روي أنه لما بلغت النوبةُ إلى وعائه قال: ما أظن هذا أخذ شيئاً، فقالوا: والله لا نترُكه حتى تنظرَ في رحله فإن أطيبُ لنفسك وأنفسنا { ثُمَّ ٱسْتَخْرَجَهَا } أي السقاية أو الصُّواعَ فإنه يذكر ويؤنث { مِن وِعَاء أَخِيهِ } لم يقل منه على رجع الضميرِ إلى الوعاء أو من وعائه على رجعه إلى أخيه قصداً إلى زيادة كشفٍ وبـيان، وقرىء بضم الواو بقلبها همزة كما في أشاح في وشاح { كَذٰلِكَ } نُصب على المصدرية والكافُ مقحمةٌ للدَلالة على فخامة المشارِ إليه وكذا ما في ذلك من معنى البُعد أي مثلَ ذلك الكيدِ العجيبِ وهو عبارةٌ عن إرشاد الإخوةِ إلى الإفتاء المذكورِ بإجرائه على ألسنتهم وبحملهم عليه بواسطة المستفتين من حيث لم يحتسبوا فمعنى قوله عز وجل: { كِدْنَا لِيُوسُفَ } صنعنا له ودبّرنا لأجل تحصيل غرضِه من المقدمات التي رتبها من دس الصُواعِ وما يتلوه، فاللام ليست كما في قوله:فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا } [يوسف: 5] فإنها داخلة على المتضرِّر على ما هو الاستعمالُ الشائع وقوله تعالى: { مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ ٱلْمَلِكِ } استئنافٌ وتعليلٌ لذلك الكيدِ وصُنعه لا تفسيرٌ وبـيانٌ له كما قيل، كأنه قيل: لماذا فعل ذلك؟ فقيل: لأنه لم يكن ليأخذ أخاه بما فعله في دين الملِكِ في أمر السارق أي في سلطانه، قاله ابن عباس، أو في حكمه وقضائِه، قاله قتادة، إلا به لأن جزاءَ السارقِ في دينه إنما كان ضربَه وتغريمَه ضعفَ ما أخذ دون الاسترقاق والاستعباد كما هو شريعةُ يعقوبَ عليه السلام فلم يكن يتمكن بما صنعه من أخذ أخيه بالسرقة التي نسبها إليه حال من الأحوال { إِلاَّ أَن يَشَاء ٱللَّهُ } أي إلا حالَ مشيئتِه التي هي عبارةٌ عن إرادته لذلك الكيدِ أو إلا حالَ مشيئتِه للأخذ بذلك الوجهِ، ويجوز أن يكون الكيدُ عبارةً عنه وعن مباديه المؤدِّية إليه جميعاً من إرشاد يوسفَ وقومِه إلى ما صدر عنهم من الأفعال والأقوالِ حسبما شرح مرتباً لكن لا على أن يكون القصرُ المستفادُ من تقديم المجرورِ مأخوذاً بالنسبة إلى غيره مطلقاً على معنى مثلَ ذلك الكيدِ كدنا لا كيداً آخرَ إذ لا معنى لتعليله بعجز يوسفَ عن أخذ أخيه في دين الملكِ في شأن السارقِ قطعاً إذ لا علاقة بـين مطلقِ الكيد ودينِ الملك في أمر السارق أصلاً بالنسبة إلى بعضه على معنى مثلَ ذلك الكيدِ البالغ إلى هذا الحد كدنا له ولم نكتف ببعض من ذلك لأنه لم يكن يأخذ أخاه في دين الملك به إلا حالَ مشيئتِنا له بإيجاد ما يجري مجرىٰ الجزءِ الصّوري من العلة التامة وهو إرشادُ إخوتِه إلى الإفتاء المذكور، وعلى هذا ينبغي أن يحمل القصرُ في تفسير من فسر قوله تعالى: { كِدْنَا لِيُوسُفَ } بقوله: علّمناه إياه وأوحينا به إليه أي مثلَ ذلك التعليم المستتبعِ لما شرح مرتباً علّمناه دون بعض من ذلك فقط الخ، وعلى كل حال فالاستئناءُ من أعم الأحوال كما أشير إليه، ويجوز أن يكون من أعم العلل والأسبابِ أي لم يكن يأخذ أخاه لعلة من العلل أو بسبب من الأسباب إلا لعلة مشيئتِه تعالى أو إلا بسبب مشيئتِه تعالى، وأياً ما كان فهو متصلٌ لأن أخذَ السارق إذا كان ممن يرى ذلك ويعتقده ديناً لا سيما عند رضاه وإفتائِه به ليس مخالفاً لدين الملِك، وقد قيل: معنى الاستئناءِ إلا أن يشاء الله أن يجعل ذلك الحكمَ حكمَ الملكِ.

السابقالتالي
2 3