الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }

{ وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم } من الأبواب المتفرقة من البلد، قيل: كانت له أربعةُ أبوابٍ فدخلوا منها وإنما اكتُفى بذكره لاستلزامه الانتهاءَ عما نُهوا عنه { مَا كَانَ } ذلك الدخولُ { يُغْنِى } فيما سيأتي عند وقوعِ ما وقع { عَنْهُمْ } عن الداخلين لأن المقصودَ به استدفاعُ الضرر عنهم، والجمعُ بـين صيغتي الماضي والمستقبل لتحقيق المقارنةِ الواجبةِ بـين جوابِ لمّا ومدخولِه فإن عدمَ الإغناءِ بالفعل إنما يتحقق عند نزولِ المحذورِ لا وقت الدخول، وإنما المتحققُ حينئذ ما أفاده الجمعُ المذكور من عدم كونِ الدخولِ المذكورِ مغْنياً فيما سيأتي فتأمل { مِنَ ٱللَّهِ } من جهته { مِن شَىْءٍ } أي شيئاً مما قضاه مع كونه مَظِنةً لذلك في بادي الرأي حيث وصّاهم به يعقوبُ عليه السلام وعمِلوا بموجبه واثقين بجدواه من فضل الله تعالى، فليس المرادُ بـيانَ سببـية الدخولِ المذكور لعدم الإغناءِ كما في قوله تعالى:فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً } [فاطر: 42] فإن مجيءَ النذير هناك سببٌ لزيادة نفورِهم بل بـيانُ عدم سببـيته للإغناء مع كونها متوقعةً في بادي الرأي كما في قولك: حلف أن يُعطيَني حقي عند حلولِ الأجلِ فلما حل لم يُعطني شيئاً، فإن المرادَ بـيانُ عدمِ سببـية حلولِ الأجلِ للإعطاء مع كونها مرجُوّةً بموجب الحلِف لا بـيانُ سببـيته لعدم الإعطاءِ فالمآلُ بـيانُ عدمِ ترتبِ الغرضِ المقصود على التدبـير المعهودِ مع كونه مرجوَّ الوجود لا بـيانُ ترتبِ عدمِه عليه، ويجوز أن يراد ذلك أيضاً بناءً على ما ذكره عليه السلام في تضاعيف وصيّتِه من أنه لا يُغني عنهم من الله شيئاً فكأنه قيل: ولمّا فعلوا ما وصاهم به لم يُفِدْ ذلك شيئاً ووقع الأمر حسبما قال عليه السلام فلقُوا ما لقُوا فيكون من باب وقوعِ المتوقع فتأمل.

{ إِلاَّ حَاجَةً } استثناءٌ منقطعٌ أي ولكنْ حاجةً وحرازةً كائنة { فِى نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا } أي أظهرها ووصّاهم بها دفعاً للخاطرة غيرَ معتقدٍ أن للتدبـير تأثيراً في تغيـير التقديرِ، وقد جعل ضميرُ الفاعل في قضاها للدخول على معنى أن ذلك الدخولَ قضى حاجةً في نفس يعقوبَ وهي إرادتُه أن يكون دخولُهم من أبواب متفرقةٍ، فالمعنى ما كان ذلك الدخولُ يغني عنهم من جهة الله تعالى شيئاً ولكن قضى حاجةً حاصلةً في نفس يعقوبَ بوقوعه حسب إرادتِه فالاستثناءُ منقطعٌ أيضاً وعلى التقديرين لم يكن للتدبـير فائدةٌ سوى دفعِ الخاطرة، وأما إصابةُ العين فإنما لم تقع لكونها غيرَ مقدّرةٍ عليهم لا لأنها اندفعت بذلك مع كونها مقضيّةً عليهم { وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ } جليلٍ { لّمَا عَلَّمْنَاهُ } لتعليمنا إياه بالوحي ونصْبِ الأدلةِ لم يعتقِدْ أن الحذرَ يدفع القَدر وأن التديبرَ له حظٌ من التأثير حتى يتبـينَ الخللُ في رأيه عند تخلفِ الأثر أو حيث بتّ القولَ بأنه لا يغني عنهم من الله شيئاً فكان الحالُ كما قال. وفي تأكيد الجملةِ بإن واللامِ وتنكيرِ العلْم وتعليلِه بالتعليم المسند إلى ذاته سبحانه من الدلالة على جلالة شأنِ يعقوبَ عليه السلام وعلوِّ مرتبة علمِه وفخامته ما لا يخفى { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } أسرارَ القدر ويزعمُون أنه يغني عنه الحذرُ، وأما ما يقال من أن المعنى لا يعلمون إيجابَ الحذر مع أنه لا يغني شيئاً من القدر فيأباه مقام بـيان تخلّفِ المطلوب عن المبادىء.