الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَكَذٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ ءَالِ يَعْقُوبَ كَمَآ أَتَمَّهَآ عَلَىٰ أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }

{ وَكَذٰلِكَ } أي ومثلَ ذلك الاجتباءِ البديعِ الذي شاهدتَ آثارَه في عالم المثالِ من سجود تلك الأجرامِ العلوية النيِّرةِ لك، وبحسَبه وعلى وَفْقه { يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ } يختارك لجناب كبريائِه ويستنبئك افتعال من جباه إذا جمعه، ويصطفيك على أشراف الخلائقِ وسَراةِ الناس قاطبةً ويُبرز مصداق تلك الرؤيا في عالم الشهادة حسب ما عاينته من غير قصور، والمرادُ بالتشبـيه بـيانُ المضاهاةِ المتحققةِ بـين الصور المرئيةِ في عالم المثالِ وبـين ما وقعت هي صوراً وأشباحاً له من الكائنات الظاهرةِ بحسبها في عالم الشهادة أي كما سُخّرت لك تلك الأجرامُ العظامُ يسخِّرْ لك وجوهَ الناس ونواصيَهم مذعنين لطاعتك خاضعين لك على وجه الاستكانة، ومرادُه بـيانُ إطاعةِ أبويه وإخوتِه له لكنه إنما لم يصرّح به حذراً من إذاعته { وَيُعَلّمُكَ } كلامٌ مبتدأٌ غيرُ داخل تحت التشبـيه أراد به عليه السلام تأكيدَ مقالته وتحقيقَها وتوطينَ نفسِ يوسفَ عليه السلام بما أخبر به على طريقة التعبـيرِ والتأويل، كأنه قال وهو يعلمك { مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ } أي ذلك الجنسِ من العلوم أو طرفاً صالحاً منه فتطلّع على حقيّة ما أقول، ولا يخفى ما فيه من تأكيد ما سبق والبعثِ على تلقي ما سيأتي بالقبول، والمرادُ بتأويل الأحاديث تعبـيرُ الرؤيا إذ هي أحاديثُ الملَكِ إن كانت صادقةً أو أحاديثُ النفس أو الشيطان إن لم تكن كذلك، والأحاديثُ اسم جمعٍ للحديث كالأباطيل اسم جمع للباطل لا جمع أُحدوثة، وقيل: كأنهم جمعوا حديثاً على أحْدِثة ثم جمعوا الجمعَ على أحاديث كقطيع وأقطِعة وأقاطيع، وقيل: هو تأويلُ غوامضِ كتب الله تعالى وسنن الأنبـياء عليهم السلام، والأولُ هو الأظهرُ، وتسميةُ التعبـير تأويلاً لأنه جُعل المرئيُّ آيلاً إلى ما يذكره المعبِّرُ بصدد التعبـير ورجْعِه إليه فكأنه عليه الصلاة والسلام أشار بذلك إلى ما سيقع من يوسف عليه السلام من تعبـيره لرؤيا صاحبَـيْ السجنِ ورؤيا الملِك وكون ذلك ذريعةً إلى ما يبلّغه الله تعالى إليه من الرياسة العظمى التي عبر عنها بإتمام النعمة، وإنما عرَف يعقوبُ عليه السلام ذلك منه من جهة الوحي، أو أراد كونَ هذه الخَصلةِ سبباً لظهور أمرِه عليه السلام على الإطلاق فيجوز حينئذ أن تكون معرفتُه عليه السلام لذلك بطريق الفِراسةِ والاستدلال من الشواهد والدلائل والأَمارات والمخايل بأن مَن وفقه الله تعالى لمثل هذه الرؤيا لا بد من توفيقه لتعبـيرها وتأويل أمثالِها وتميـيز ما هو آفاقيٌّ منها مما هو أنفُسيٌّ. كيف لا وهي تدل على كمال تمكّن نفسِه عليه السلام في عالم المثال وقوةِ تصرفاتِها فيه فيكون أقبلَ لفيضان المعارفِ المتعلّقة بذلك العالم وبما يحاكيه من الأمور الواقعةِ بحسبها في عالم الشهادةِ وأقوى وقوفاً على النِّسب الواقعة بـين الصور المعاينةِ في أحد ذينك العالمين وبـين الكائنات الظاهرةِ على وفقها في العالم الآخر، وأن هذا الشأنَ البديلَ لا بد أن يكون أنموذجاً لظهور أمرِ من اتصف به ومداراً لجريان أحكامِه فإن لكل نبـيَ من الأنبـياء عليهم الصلاة والسلام معجزةً بها تظهر آثارُه وتجري أحكامُه { وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } بأن يضم إلى النبوة المستفادةِ من الاجتباء المُلكَ ويجعله تتمة لها، وتوسيطُ ذكر التعليم المذكور بـينهما لكونه من لوازم النبوةِ والاجتباءِ ولرعاية ترتيبِ الوجود الخارجي ولِما أشرنا إليه من كون أثرِه وسيلةً إلى تمام النعمةِ ويجوز أن يعدّ نفسُ الرؤيا من نعم الله تعالى عليه فيكون جميعُ النعم الواصلة إليه من كون أثرِه وسيلةً إلى تمام النعمةِ، ويجوز أن يُعدَّ نفس الرؤيا من نعم الله تعالى عليه فيكون جميع النعم الواصلة إليه بحسبها مصداقاً لها تماماً لتلك النعمة.

السابقالتالي
2