الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّيۤ أَرَانِيۤ أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ ٱلآخَرُ إِنِّي أَرَانِيۤ أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ }

{ وَدَخَلَ مَعَهُ } أى فى صحبته { ٱلسِّجْنَ فَتَيَانَ } من فتيان الملك ومماليكه أحدهما شرابيه والآخر خبازه. روى أن جماعة من أهل مصر ضمنوا لهما مالا ليسما الملك فى طعامه وشرابه فأجابهم إلى ذلك ثم إن الساقى نكل عن ذلك ومضى عليه الخباز فسم الخبز فلما حضر الطعام قال الساقى لا تأكل أيها الملك فإن الخبز مسموم وقال الخباز لا تشرب أيها الملك فإن الشراب مسموم فقال الملك للساقى اشربه فشربه فلم يضره وقال للخباز كله فأبى فجرب بدابة فهلكت فأمر بحبسهما فانفق أن أدخلاه معه وتأخير الفاعل عن المفعول لما مر غير مرة من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ليتمكن عند النفس حين وروده عليها فضل تمكن ونظيره تقديم الظرف على المفعول الصريح فى قوله تعالىفأوجَسَ فى نفسه خِيفة } [طه: 67] وتأخير السجن عن الظرف لإيهام العكس أن يكون الظرف خبراً مقدما على المبتدأ وتكون الجملة حالا من فاعل دخل فتأمل { قَالَ أَحَدُهُمَآ } استئناف مبنى على سؤال من يقول ما صنعا بعد ما دخلا معه السجن فأجيب بأنه قال أحدهما وهو الشرابى { إِنِّيۤ أَرَانِيۤ } أى رأيتنى والتعبير بالمضارع لاستحضار الصورة الماضية { أَعْصِرُ خَمْراً } أى عنباً سماه بما يؤول إليه لكونه المقصود من العصر وقيل الخبر بلغة عمان اسم للعنب وفى قراءة ابن مسعود رضى الله عنه أعصر عنباً { وَقَالَ ٱلآخَرُ } وهو الخباز { إِنِّي أَرَانِيۤ أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً } تأخير المفعول عن الظرف لما مر آنفاً وقوله { تَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِنْهُ } أى تنهس منه صفة للخبز أو استئناف مبنى على السؤال { نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ } بتأويل ما ذكر من الرؤ بين أو ما رئى بإجراء الضمير مجرى ذلك بطريق الاستعارة فإن اسم الإشارة يشار به إلى متعدد كما فى قوله
فيها خطوط من سواد وبلق   كأنه فى الجلد توليع البهق
أي كائن ذلك والسر فى المصير إلى إجراء الضمير مجرى اسم الإشارة مع أنه لا حاجة إليه بعد تأويل المرجع بما ذكر أو بما رئى أن الضمير إنما يتعرض لنفس المرجع من حيث هو من غير تعرض لحال من أحواله فلا يتسنى تأويله بأحد الاعتبارين إلا بإجرائه مجرى اسم الإشارة الذى يدل على المشار إليه بالاعتبار الذى جرى عليه فى الكلام فتأمل هذا إذا قالاه معاً أو قاله أحدهما من جهتهما ليتعدد المرجع بل عبارة كل منهما نبئنى بتأويله مستفسراً لما رآه وصيغة المتكلم مع الغير واقعة فى الحكاية دون المحكى على طريقة قوله عز وجليَأيُّها الرُّسل كُلُوا من الطيبات } [المؤمنون: 51] فإنَّهم لم يخاطبوا بذلك دفعة بل خوطب كل منهم فى زمانه بصيغة مفردة خاصة به { إِنَّا نَرَاكَ } تعليل لعرض رؤياهما عليه واستفسارها منه عليه السلام { مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } من الذين يحيدون عبارة الرؤيا لما رأياه يقص عليه بعض أهل السجن رؤياه فيؤو لها له تأويلا حسناً أو من العلماء لما سمعاه يذكر للناس ما يدل على علمه وفضله أو من المحسنين إلى أهل السجن أى فأحسن إلينا بكشف غمتنا إن كنت قادراً على ذلك.

السابقالتالي
2