الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ ٱخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَـٰذَا بَشَراً إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ }

{ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ } باغتيابهن وسوءِ قالتِهن وقولِهن: امرأةُ العزيز عشِقت عبدَها الكنعاني وهو مَقَتها، وتسميتُه مكراً لكونه خفيةً منها كمكر الماكر، وإن كان ظاهراً لغيرها. وقيل: استكْتَمَتْهن سِرَّها فأفشَيْنه عليها، وقيل: إنما قلن ذلك لتُرِيَهُنّ يوسف عليه السلام { أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ } تدعوهن، قيل: دعت أربعين امرأةً منهن الخمسُ المذكورات { وَأَعْتَدَت } أي أحضرت وهيأت { لَهُنَّ } أي ما يتكئن عليه من النمارق والوسائد، أو رتّبت لهن مجلسَ شرابٍ لأنهم كانوا يتكئون للطعام والشراب والحديث كعادة المترَفين، ولذلك نُهي الرجلُ أن يأكل متّكِئاً. وقيل: متّكأ طعاماً من قولهم: تكأنا عند فلان أي طعِمنا، قال جميل:
فظلِلْنا بنعمةٍ واتكأنا   وشرِبْنا الحلالَ من قُلَلِهْ
وعن مجاهد متّكأً طعاماً يُحَزّ حزاً، كأن المعنى يُعتمد بالسكين عند القطع لأن القاطعَ يتكىء على المقطوع بالسكين، وقرىء بغير همز وقرىء بالمد بإشباع حركة الكاف كمُنتَزاح في مُنتزَح ويَنْباع في ينبَع وقرىء مُتُكاً وهو الأُترُجّ وأنشدوا:
وأهدت مُتْكةً لبني أبـيها   تخُب بها العَثَمْثمَةُ الوَقاحُ
أو ما يقطع من متَك الشيءَ إذا بتكه إذا تكى { وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً } لتستعمله في قطع ما يُعهد قطعُه مما قدّم بـين أيديهن وقرِّب إليهن من اللحوم والفواكه ونحوها وهن متّكئات وغرضُها من ذلك ما سيقع من تقطيع أيديهن { وَقَالَتِ } ليوسف وهن مشغولاتٌ بمعالجة السكاكين وإعمالِها فيما بأيديهن من الفواكه وأضرابها، والعطفُ بالواو ربما يشير إلى أن قولها: { ٱخْرُجْ عَلَيْهِنَّ } أي ابرُزْ لهن لم يكن عَقيب ترتيب أمورِهن ليتم غرضُها من استغفالهن { فَلَمَّا رَأَيْنَهُ } عطفٌ على مقدر يستدعيه الأمرُ بالخروج وينسحب عليه الكلام أي فخرج عليهن فرأينه وإنما حذف تحقيقاً لمفاجأة رؤيتِهن كأنها تفوت عند ذكرِ خروجِه عليهن كما حُذف لتحقيق السُّرعةِ في قوله عز وجل:فَلَمَّا رَءاهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ } [النمل: 40] بعد قوله:أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } وفيه إيذانٌ بسرعة امتثالِه عليه السلام بأمرها فيما لا يشاهد مضرَّتَه من الأفاعيل { أَكْبَرْنَهُ } عظّمنه وهِبْن حسنَه الفائقَ وجماله الرائعَ الرائقَ فإن فضلَ جمالِه على جمال كلِّ جميلٍ كان كفضل القمرِ ليلة البدرِ على سائر الكواكب. عن النبـي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " رأيتُ يوسفَ ليلةَ المعراج كالقمر ليلةَ البدر " وقيل: كان يُرى تلألؤُ وجهِه على الجُدران كما يُرى نورُ الشمس على الماء، وقيل: معنى أكبرْنَ حِضْن والهاء للسكت أو ضمير راجع إلى يوسف عليه السلام على حذف اللام أي حضْن له من شدة الشبَق كما قال المتنبـي:
خفِ الله واستُر ذا الجمالَ ببرقع   فإن لُحْتَ حاضتْ في الخدور العواتقُ
{ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } أي جرَحْنها بما في أيديهن من السكاكين لفرْط دهشتِهن وخروجِ حركات جوارحِهن ومع ذلك لم يبالين بذلك ولم يشعُرْن به { وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ } تنزيهاً له سبحانه عن صفات النقصِ والعجزِ وتعجباً من قدرته على مثل ذلك الصنعِ البديعِ، وأصلُه حاشا كما قرأه أبو عمرو في الدرج فحُذفت ألفُه الأخيرةُ تخفيفاً وهو حرفُ جر يفيد معنى التنزيهِ في باب الاستثناء فلا يُستثنى به إلا ما يكون موجباً للتنزيه فوضع موضعَه، فمعنى حاشا الله تنزيهُ الله وبراءةُ الله وهي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه، واللام لبـيان المنزَّه والمبرَّأ عز وجل كما في سُقياً لك، والدليلُ على وضعه موضعَ المصدر قراءةُ أبـي السمال حاشاً بالتنوين وقراءةُ أبـي عمرو بحذف الألف الأخيرة وقرأةُ الأعمش بحذف الأولى فإن التصرّفَ من خصائص الاسمِ فيدل على تنزيله منزلتَه، وعدمُ التنوين لمراعاة أصلِه كما في قولك: جلست مِنْ عن يمينه.

السابقالتالي
2