الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى ٱلْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً وَقَالَ يٰأَبَتِ هَـٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بَيۤ إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ ٱلسِّجْنِ وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ ٱلْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ ٱلشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِيۤ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ }

{ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ } عند نزولِهم بمصر { عَلَى ٱلْعَرْشِ } على السرير تكرِمةً لهما فوق ما فعله لإخوته { وَخَرُّواْ لَهُ } أي أبواه وإخوتُه { سُجَّدًا } تحية له فإنه كان السجودُ عندهم جارياً مجرى التحيةِ والتكرمةِ كالقيام والمصافحةِ وتقبـيلِ اليد ونحوِها من عادات الناس الفاشية في التعظيم والتوقير، وقيل: ما كان ذلك إلا انحناءً دون تعفيرِ الجباه، ويأباه الخرُورُ، وقيل: خروا لأجله سجداً لله شكراً ويرده قوله تعالى: { وَقَالَ يأَبَتِ هَـٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَـٰى } التي رأيتها وقصصتها عليك { مِن قَبْلُ } في زمن الصِّبا { قَدْ جَعَلَهَا رَبّى حَقّا } صدقاً واقعاً بعينه، والاعتذارُ بجعل يوسفَ بمنزله القِبلة وجعلِ اللام كما في قوله: (أَلَيْسَ أَوَّلَ مَنْ صَلَّىٰ لقبلتكم) تعسفٌ لا يخفى، وتأخيرُه عن الرفع على العرش ليس بنص في ذلك لأن الترتيبَ الذكريَّ لا يجب كونُه على وفق الترتيب الوقوعيِّ فلعل تأخيرَه عنه ليصل به ذكرُ كونِه تعبـيراً لرؤياه وما يتصل به من قوله: { وَقَدْ أَحْسَنَ بَى } المشهورُ استعمالُ الإحسان بإلى، وقد يستعمل بالباء أيضاً كما في قوله عز اسمُه:وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰناً } [البقرة: 83] وقيل: هذا بتضمين لَطَف وهو الإحسانُ الخفيُّ كما يؤذن به قوله تعالى: { إِنَّ رَبّى لَطِيفٌ لّمَا يَشَاء } وفيه فائدة لا تخفى أي لطَف بـي محسناً إليَّ غيرَ هذا الإحسان { إِذْ أَخْرَجَنِى مِنَ ٱلسّجْنِ } بعدما ابتُليت به ولم يصرِّح بقصة الجُبّ حِذاراً من تثريب إخوتِه لأن الظاهرَ حضورُهم لوقوع الكلام عَقيب خرورهم سجّداً واكتفاءً بما يتضمنه قوله تعالى: { وَجَاء بِكُمْ مّنَ ٱلْبَدْوِ } أي البادية { مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ ٱلشَّيْطَـٰنُ بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى } أي أفسد بـيننا بالإغواء وأصلُه من نخْس الرائضِ الدابةَ وحملِها على الجري، يقال: نزَغه ونسَغه إذا نخسَه ولقد بالغ عليه الصلاة والسلام في الإحسان حيث أسند ذلك إلى الشيطان { إِنَّ رَبّى لَطِيفٌ لّمَا يَشَاء } أي لطيفُ التدبـير لأجله رفيقٌ حتى يجيء على وجه الحِكمة والصواب، ما من صعبٍ إلا وهو بالنسبة إلى تدبـيره سهلٌ { إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَلِيمُ } بوجود المصالح { ٱلْحَكِيمُ } الذي يفعل كلّ شيء على قضية الحكمة. روي أن يوسف أخذ بـيد يعقوبَ عليهما الصلاة والسلام فطاف به في خزائنه فأدخله في خزائن الورِقِ والذهب وخزائن الحِليّ وخزائن الثياب وخزائنِ السلاح وغيرِ ذلك، فلما أدخله خزائنَ القراطيس قال: يا بني ما أعقّك، عندك هذه القراطيسُ وما كتبت إلي على ثماني مراحلَ؟ قال: أمرني جبريلُ، قال: أو ما تسأله، قال: أنا أبسطُ إليه مني فسأله قال جبريلُ: الله تعالى أمرني بذلك لقولك: أخاف أن يأكلَه الذئب، قال: فهلا خِفْتني. ورُوي أن يعقوب عليه الصلاة والسلام أقام معه أربعاً وعشرين سنة ثم مات وأوصى أن يدفِنه بالشام إلى جنب أبـيه إسحاقَ فمضى بنفسه ودفنه ثمةَ ثم عاد إلى مصرَ وعاش بعد أبـيه ثلاثاً وعشرين سنة فلما تم أمرُه وعلِم أنه لا يدوم له تاقت نفسُه إلى المُلك الدائم الخالد فتمنى الموت فقال: