الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَق ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى ٱلْمَآءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ ٱلْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ }

{ وَهُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } السمواتِ في يومين والأرضَ في يومين وما عليها من أنواع الحيواناتِ والنباتِ وغيرِ ذلك في يومين حسبما فُصِّل في سورة حم السجدةُ ولم يُذكر خلقُ ما في الأرض لكونه من تتمات خلقِها وهو السرُّ في جعل زمان خلقِه تتمةً لزمان خلقِها في قوله تعالى:فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ } [فصلت: 10] أي في تتمة أربعةِ أيام. والمرادُ بالأيام الأوقاتُ كما في قوله تعالى:وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } [الأنفال: 16] أي في ستة أوقاتٍ أو مقدارِ ستةِ أيامٍ فإن اليومَ في المتعارَف زمانُ كونِ الشمسِ فوق الأرضِ، ولا يُتصوَّر ذلك حين لا أرضَ ولا سماءَ، وفي خلقها مدرجاً مع القدرة التامةِ على خلقها دفعةً دليلٌ على أنه قادرٌ مختارٌ واعتبارٌ للنُظّار وحثٌّ على التأنّي في الأمور. وأما تخصيصُ ذلك بالعدد المعيَّنِ فأمرٌ استأثر بعلم ما يقتضيه علامُ الغيوب جلت حِكمتُه، وإيثارُ صيغةِ الجمعِ في السموات لما هو المشهورُ من الإشارة إلى كونها أجراماً مختلفةَ الطبائعِ ومتفاوتةَ الآثارِ والأحكام { وَكَانَ عَرْشُهُ } قبل خلقِهما { عَلَى ٱلْمَاء } ليس تحته شيءٌ غيرُه سواءٌ كان بـينهما فُرجةٌ أو كان موضوعاً على متنه كما ورد في الأثر، فلا دلالةَ فيه على إمكان الخلاء، كيف لا ولو دلّ لدلّ على وجوده لا على إمكانه فقط ولا على كون الماءِ أولَ ما حدث في العالم بعد العرش، وإنما يدلّ على أن خلقَهما أقدمُ من خلق السموات والأرضِ من غير تعرضٍ للنسبة بـينهما { لِيَبْلُوَكُمْ } متعلقٌ بخلق أي خلق السمواتِ والأرضَ وما فيهما من المخلوقات التي من جملتها أنتم ورتب فيهما جميع ما تحتاجون إليه من مبادي وجودِكم وأسبابِ معايشِكم وأودع في تضاعيفهما من تعاجيب الصنائعِ والعبرِ ما تستدلون به على مطالبكم الدينيةِ ليعاملَكم معاملةَ من يبتليكم { أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } فيحازيَكم بالثواب والعقاب غِبّ ما تبـين المحسنُ من المسيء وامتازت درجاتُ أفرادِ كلَ من الفريقين حسب امتيازِ طبقاتِ علومِهم واعتقاداتِهم المترتبة على أنظارهم فيما نُصب من الحُجج والدلائل والأماراتِ والمخايلِ ومراتب أعمالِهم المتفرِّعة على ذلك فإن العملَ غيرُ مختصَ بعمل الجوارح، ولذلك فسره عليه السلام بقوله: " أيكم أحسنُ عقلاً وأورعُ عن محارم الله وأسرعُ في طاعة الله؟ " فإن لكل من القلب والقالَبِ عملاً مخصوصاً به فكما أن الأولَ أشرفُ من الثاني فكذا الحالُ في عمله كيف لا ولا عملَ بدون معرفةِ الله عز وجل الواجبةِ على العباد آثرَ ذي أثيرٍ وإنما طريقُها النظريُّ التفكرُ في بدائع صنائعِ الملِكِ الخلاقِ والتدبّرِ في آياتة البـيناتِ المنصوبةِ في الأنفس والآفاق، ولا طاعة بدون فهم ما في مطاوي الكتابِ الحكيم من الأوامر والنواهي وغيرِ ذلك مما له مدخلٌ في الباب.

السابقالتالي
2