الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالُواْ يٰهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِيۤ آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } * { إِن نَّقُولُ إِلاَّ ٱعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوۤءٍ قَالَ إِنِّيۤ أُشْهِدُ ٱللَّهَ وَٱشْهَدُوۤاْ أَنِّي بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ }

{ قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَـيِّنَةٍ } أي بحجة تدل على صحة دعواك وإنما قالوه لفَرْط عنادِهم وعدمِ اعتدادِهم بما جاءهم من البـينات الفائتةِ للحصر.

{ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا } أي بتاركي عبادتِها { عَنْ قَوْلِكَ } أي صادرين عنه أي صادراً تركُنا عن ذلك بإسناد حالِ الوصفِ إلى الموصوف ومعناه التعليلُ على أبلغ وجهٍ لِدلالته على كونه علةً فاعليةً، ولا يفيده الباءُ واللام وهذا كقولهم المنقولِ عنهم في سورة الأعرافأجئتَنا لنعبُدَ الله وحدَه ونذرَ ما كان يعبُد آباؤُنا } [الأعراف: 70] { وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِين } أي بمصدقين في شيء مما تأتي وتذر فيندرج تحته ما دعاهم إليه من التوحيد وتركِ عبادةِ الآلهةِ، وفيه من الدلالة على شدة الشكيمة وتجاوزِ الحدِّ في العتو ما لا يخفى { إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ } أي ما نقول إلا قولَنا اعتراك أي أصابك { بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ } بجنون لِسبِّك إياها وصدِّك عن عبادتها وحطِّك لها عن رتبة الألوهيةِ والمعبوديةِ بما مر من قولِك: { ما لكم من إلٰه غيرُه إن أنتم إلا مفترون } ، والتنكيرُ في سوءٍ للتقليل كأنهم لم يبالغوا في السوء كما ينبىء عنه نسبةُ ذلك إلى بعض آلهتِهم دون كلِّها، والجملةُ مقولُ القولِ وإلا لغوٌ لأن الاستثناءَ مفرَّغٌ، وهذا الكلامُ مقرِّرٌ لما مر من قولهم: { وما نحن بتاركي آلهتِنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين } فإن اعتقادَهم بكونه عليه الصلاة والسلام كما قالوا وحاشاه عن ذلك يوجب عدمَ الاعتدادِ بقوله وعدِّه من قبـيل الخُرافاتِ فضلاً عن التصديق والعملِ بمقتضاه، يعنون إنا لا نعُدّ كلاَمك إلا من قبـيل ما لا يحتمل الصِّدقَ والكذِبَ من الهذَيانات الصادرةِ عن المجانين فكيف نصدِّقه ونؤمن به ونعمل بموجبه، ولقد سلكوا في طريقة المخالفةِ والعناد إلى سبـيل الترقّي من الأدنى إلى الأعلى حيث أَخبَروا أولاً عن عدم مجيئِه بالبـينة مع احتمال كونِ ما جاء به عليه الصلاة والسلام حجةً في نفسه وإن لم تكن واضحةَ الدِلالة على المراد، وثانياً عن ترك الامتثالِ بقوله عليه الصلاة والسلام بقولهم: { وما نحن بتاركي آلهتِنا عن قولك } مع إمكان تحققِ ذلك بتصديقهم له عليه الصلاة والسلام في كلامه ثم نفَوا تصديقَهم له عليه الصلاة والسلام بقولهم: { وما نحن لك بمؤمنين } مع كون كلامِه عليه الصلاة والسلام مما يقبل التصديقَ ثم نفَوْا عنه تلك المرتبةَ أيضاً حيث قالوا ما قالوا قاتلهم الله أنىٰ يؤفكون { قَالَ إِنِّي أَُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ }.