الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } * { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ قُلْنَا ٱحْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ }

{ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ } وهو عذابُ الغَرَقِ { وَيَحِلُّ عَلَيْهِ } حلولَ الدَّيْن المؤجل { عَذَابٌ مُّقِيمٌ } هو عذابُ النارِ الدائمُ وهو تهديدٌ بليغٌ، و(مَنْ) عبارةٌ عنهم، وهي إما استفهاميةٌ في حيز الرفعِ أو موصولةٌ في محل النصبِ بتعلمون وما في حيِّزها سادٌّ مسدَّ مفعولين أو مفعولٍ واحدٍ إن جُعل العلمُ بمعنى المعرفةِ، ولما كان مدارُ سخريتِهم استجهالَهم إياه عليه الصلاة والسلام في مكابدة المشاقِّ الفادحةِ لدفع ما لا يكاد يدخُل تحت الصِّحةِ على زعمهم من الطوفان ومقاساةِ الشدائِد في بناء السفينةِ وكانوا يعدّونه عذاباً قيل بعد استجهالِهم فسوف تعلمون مَنْ يأتيه العذابُ يعني أن أُباشرُه ليس فيه عذابٌ لاحقٌ بـي فسوف تعلمون مَنِ المعذَّبُ، ولقد أصاب العلمُ بعد استجهالِهم محزّه، ووصفُ العذاب بالإخزاء لما في الاستهزاء والسخريةِ من لُحوق الخِزْي والعارِ عادة، والتعرُّضُ لحلول العذاب المقيمِ للمبالغة في التهديد، وتخصّصُه بالمؤجل وإيرادُ الأول بالإتيان في غاية الجزالة.

{ حَتَّىٰ إِذَا جَاء أَمْرُنَا } حتى هي التي يُبتدأ بها الكلامُ دخلت على الجملة الشرطيةِ وهي مع ذلك غايةٌ لقوله:وَيَصْنَعُ } وما بـينهما حالٌ من الضمير فيه، وسخِروا منه جوابٌ لكلما، وقال استئنافٌ على تقدير سؤال سائلٍ كما ذكرناه وقيل: هو الجوابُ وسِخروا منه بدلٌ من مرّ أو صفةٌ لملأ وقد عرفت أن الحقَّ هو الأولُ لأن المقصودَ بـيانُ تناهيهم في إيذائه عليه الصلاة والسلام وتحمُّلِه لأذيَّتهم لا مسارعتُه عليه الصلاة والسلام إلى جوابهم كلما وقع منهم ما يؤذيه من الكلام { وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ } نبعَ منه الماءُ وارتفع بشدة كما تفور القِدْرُ بغَليانها، والتنّورُ تنّورُ الخبز، وهو قول الجمهور. روي أنه قيل لنوح عليه الصلاة والسلام: إذا رأيتَ الماءَ يفورُ من التنور فاركبْ ومن معك في السفينة فلما نبع الماءُ أخبرتْه امرأتُه فركب، وقيل: كان تنورَ آدمَ عليه الصلاة والسلام وكان من حجارة فصار إلى نوح، وإنما نبع منه وهو أبعدُ شيء من الماء على خرق العادةِ وكان في الكوفة في موضع مسجدها عن يمين الداخلِ مما يلي باب كِنْدة، وكان عملُ السفينةِ في ذلك الموضع، أو في الهند أو في موضع بالشام يقال له عين وردة، وعن ابن عباس رضى الله عنهما وعِكرمةَ والزُّهري أن التنورَ وجهُ الأرض، وعن قتادةَ أشرفُ موضع في الأرض أي أعلاه، وعن علي رضى الله تعالى عنه فار التنور طلع الفجرُ { قُلْنَا ٱحْمِلْ فِيهَا } أي في السفينة وهو جوابُ إذا { مِن كُلّ } أي من كل نوعٍ لا بد منه في الأرض { زَوْجَيْنِ } الزوجُ ما له مشاكلٌ من نوعه فالذكرُ زوجٌ للأنثى كما هي زوجٌ له وقد يُطلق على مجموعهما فيقابل الفرد، ولإزالة ذلك الاحتمالِ قيل: { ٱثْنَيْنِ } كلٌّ منهما زوجٌ للآخر وقرىء على الإضافة، وإنما قُدم ذلك على أهله وسائرِ المؤمنين لكونه عريقاً فيما أُمر به من الحمل لأنه يحتاج إلى مزاولة الأعمالِ منه عليه الصلاة والسلام في تميـيز بعضِه من بعض وتعيـينِ الأزواج، فإنه رُوي أنه عليه الصلاة والسلام قال: يا رب كيف أحْمل من كلَ زوجين اثنين فحشر الله تعالى إليه السباعَ والطيرَ وغيرَهما فجعل يضرِب بـيديه في كل جنس فيقع الذكرُ في يده اليمنى والأنثى في اليسرى فيجعلهما في السفينة، وأما البشرُ فإنما يدخلُ الفُلكَ باختياره فيخِفّ فيه معنى الحَمْل، أو لأنها إنما تحمِلُ بمباشرة البشر وهم إنما يدخُلونها بعد حلمهم إياها.

السابقالتالي
2