الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ مَثَلُ ٱلْفَرِيقَيْنِ كَٱلأَعْمَىٰ وَٱلأَصَمِّ وَٱلْبَصِيرِ وَٱلسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ }

{ مَثَلُ ٱلْفَرِيقَيْنِ } المذكورين أي حالُهما العجيبُ لأن المثَلَ لا يُطلق إلا على ما فيه غرابةٌ من الأحوال والصفات { كَٱلأَعْمَىٰ وَٱلأَصَمِّ وَٱلْبَصِيرِ وَٱلسَّمِيعِ } أي كحال هؤلاءِ فيكون ذواتُهم كذواتهم، والكلامُ وإن أمكن أن يُحمَلَ على تشبـيه الفريقِ الأولِ بالأعمى وبالأصمِّ وتشبـيهِ الفريقِ الثاني بالبصير وبالسميع لكن الأدخلَ في المبالغة والأقربَ إلى ما يشير إليه لفظُ المثل والأنسبَ بما سبق من وصف الكفرةِ بعدم استطاعةِ السمع وبعدم الإبصارِ، أن يُحمل على تشبـيه الفريقِ الأولِ بمن جمع بـين العَمى والصمَم، وتشبـيهُ الفريقِ الثاني بمَن جمع بـين البصر والسمع على أن تكون الواوُ في قوله تعالى: { وَٱلأَصَمِّ } وفي قوله: { وَٱلسَّمِيعِ } لعطف الصفةِ على الصفة كما في قول من قال:
إلى الملك القَرْمِ وابنِ الهُمام   وليثِ الكتبـيةِ في المُزْدَحَمْ
وأياً ما كان فالظاهرُ أن المرادَ بالحال المدلولِ عليها بلفظ المَثَل وهي التي يدور عليها أمرُ التشبـيهِ ما يلائم الأحوالَ المذكورةَ المعتبرةَ في جانب المشبهِ به من تعامي الفريقِ الأولِ عن مشاهدة آياتِ الله المنصوبةِ في العالم والنظرِ إليها بعين الاعتبارِ وتصامِّهم عن استماع آياتِ القرآنِ الكريم وتلقّيها بالقبول حسبما ذكر في قوله تعالى:مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ ٱلسَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ } [هود: 20] وإنما لم يُراعَ هذا الترتيبُ هنا لكون الأعمى أظهرَ وأشهرَ في سوء الحالِ من الأصم، ومن استعمال الفريقِ الثاني لكل من أبصارهم وأسماعِهم فيما ذكر كما ينبغي المدلولُ عليه بما سبق من الإيمان والعملِ الصالحِ والإخبات حسبما فسر به فيما مر فلا يكون التشبـيهُ تمثيلياً لا جميع الأحوال المعدودةِ لكل من الفريقين مما ذكر وما يؤدي إليه من العذاب المضاعَف والخسران البالغِ في أحدهما ومن النعيم المقيم في الآخر، فإن اعتبارَ ذلك ينزِعُ إلى كون التشبـيهِ تمثيلياً بأن يُنتزَعَ من حال الفريقِ الأول ـ في تصامّهم وتعاميهم المذكورَيْن ووقوعِهم بسبب ذلك في العذاب المضاعفِ والخُسران الذي لا خسرانَ فوقه ـ هيئةٌ فتشبّه بهيئة منتزَعةٍ ممن فقَد مَشْعَرَيْ البصر والسمعِ فتخبَّط في مسلَكه فوقع في مهاوي الردى ولم يجِدْ إلى مقصِده سبـيلاً وينتزَعَ من حال الفريق الثاني ـ في استعمال مشاعرِهم في آيات الله تعالى حسبما ينبغي وفوزِهم بدار الخلودِ ـ هيئةٌ فتشبّه بهيئة متنزَعةٍ ممن له بصَرٌ وسمع يستعملهما في مَهمّاته فيتهدي إلى سبـيله وينال مَرامه { هَلْ يَسْتَوِيَانِ } يعني الفريقين المذكورين والاستفهامُ إنكاريٌّ مذكّر لما سبق من إنكار المماثلةِ في قوله عز وجل:أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيّنَةٍ } [هود: 17] الآية { مَثَلاً } أي حالاً وصفةً وهو تميـيزٌ من فاعل يستويان { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } أي أتشكّون في عدم الاستواءِ وما بـينهما من التباين أو أتغفُلون عنه فلا تتذكرونه بالتأمل فيما ضُرب لكم من المثل فيكون الإنكارُ وارداً على المعطوفَيْن معاً أو أتسمعون هذا فلا تتذكرون فيكون راجعاً إلى عدم التذكر بعد تحققِ ما يوجب وجودَه وهو المثل المضروبُ كما في قوله تعالى:

السابقالتالي
2