الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } * { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ شَقُواْ فَفِي ٱلنَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ } * { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ }

{ يَوْمَ يَأْتِ } أي حين يأتي ذلك اليومُ المؤخَّرُ بانقضاء أجلِه كقوله تعالى:أَوْ تَأْتِيَهُمُ ٱلسَّاعَةُ } [يوسف: 107] وقيل: يومَ يأتي الجزاءُ الواقعُ فيه، وقيل: أي الله عز وجل فإن المقام مقامُ تفخيمِ شأنِ اليوم وقرىء بإثبات الياء على الأصل { لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ } أي لا تتكلم بما ينفع وينجّي من جواب أو شفاعةٍ، وهو العاملُ في الظرف أو الانتهاء المحذوفِ في قوله تعالى: { إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ } أي ينتهي الأجل يوم يأتي أو المضمر المعهود أعني أذكر { إِلاَّ بِإِذْنِهِ } عز سلطانه في التكلم كقوله تعالى:لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ } [النبأ: 38] وهذا في موطن من مواطنِ ذلك اليومِ وقولُه عز وجل:هَـٰذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } [المرسلات: 35] في موقف آخرَ من مواقفه كما أن قولَه سبحانه:يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَـٰدِلُ عَن نَّفْسِهَا } [النحل: 111] في آخرَ منها أو المأذونُ فيه الجواباتُ الحقةُ والممنوعُ عنه الأعذار الباطلةُ، نعم قد يُؤذن فيها أيضاً لإظهار بطلانِها كما في قول الكفرة:وَٱللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [الأنعام: 23] ونظائرِه { فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ } وجبت له النارُ بموجب الوعيد { وَسَعِيدٌ } أي ومنهم سعيدٌ، حُذف الخبرُ لِدلالة الأولِ عليه وهو من وجبت له الجنةُ بمقتضى الوعد، والضميرُ لأهل الموقفِ المدلولِ عليهم بقوله: { لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ } أو للناس، وتقديمُ الشقيِّ على السعيد لأن المقامَ مقامُ التحذير والإنذار.

{ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ شَقُواْ } أي سبَقَت لهم الشقاوةُ { فَفِى ٱلنَّارِ } أي مستقرّون فيها { لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ } الزفيرُ إخراجُ النفَسِ والشهيقُ ردُّه وجاء استعمالُهما في أول النهيق وآخرِه قال الشماخ يصف حمارَ الوحش:
بعيدُ مدى التطريب، أولُ صوتِه   زفيرٌ ويتلوه شهيقٌ مُحشرَجُ
والمرادُ بهما وصفُ شدةِ كربِهم وتشبـيهُ حالِهم بحال من استولت على قلبه الحرارةُ وانحصر فيه روحُه أو تشبـيهُ صراخِهم بأصواتِ الحميرِ وقرىء شقوا بالضم والجملةُ مستأنفةٌ كأن سائلاً قال: ما شأنُهم فيها؟ فقيل: لهم فيها كذا وكذا، أو منصوبةُ المحلِّ على الحالية من النار أو من الضمير في الجار والمجرور كقوله عز اسمُه: { خَـٰلِدِينَ فِيهَا } خلا أنه إن أريد حدوثُ كونِهم في النار فالحالُ مقدرةٌ { مَا دَامَتِ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } أي مدةَ دوامِها وهذا التوقيتُ عبارةٌ عن التأبـيد ونفيِ الانقطاع بناءً على منهاج قولِ العرب: ما دام تعار وما أقام ثَبـيرٌ وما لاح كوكب وما اختلف الليلُ والنهار وما طما البحرُ وغيرُ ذلك من كلمات التأبـيد لا تعليقِ قرارِهم فيها بدوام هذه السمواتِ والأرض فإن النصوصَ القاطعةَ دالةٌ على تأبـيد قرارِهم فيها وانقطاعِ دوامِهما وإن أريد التعليقُ فالمراد سمواتُ الآخرة وأرضُها كما يدل على ذلك النصوصُ كقوله تعالى:يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ } [إبراهيم: 48] وقولِه تعالى:وَأَوْرَثَنَا ٱلأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ ٱلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء }

السابقالتالي
2