الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي ٱلأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } * { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَيَجْعَلُ ٱلرِّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ }

{ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى ٱلأَرْضِ } تحقيقٌ لدروان إيمانِ كافةِ المكلفين وجوداً وعدماً على قُطب مشيئتِه تعالى مطلقاً إثرَ بـيانِ تبعيةِ كفرِ الكفرةِ لكلمته ومفعولُ المشيئة محذوفٌ لوجود ما يقتضيه من وقوعها شرطاً وكونِ مفعولها مضمونَ الجزاء وأن لا يكونَ في تعلقها به غرابةٌ كما هو المشهورُ أي لو شاء سبحانه إيمانَ من في الأرض من الثقلين لآمن { كُلُّهُمْ } بحيث لا يشِذّ عنهم أحد { جَمِيعاً } مجتمعين على الإيمان لا يختلفون فيه لكنه لا يشاؤه لكونه مخالفاً للحِكمة التي عليها بُنيَ أساسُ التكوين والتشريع وفيه دِلالةٌ على أنه من شاء الله إيمانَه يؤمن لا محالة { أَفَأَنتَ تُكْرِهُ ٱلنَّاسَ } على ما لم يشأ الله منهم حسبما ينبىء عنه حرفُ الامتناعِ في الشرطية والفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام كأنه قيل: أربُّك لا يشاء ذلك فأنت تُكرههم { حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } فيكون الإنكارُ متوجهاً إلى ترتيب الإكراهِ المذكورِ على عدم مشيئته تعالى ويجوز أن تكون الفاء لترتيب الإنكارِ على عدم مشيئته تعالى بناء على أن الهمزة متأخرة في الاعتبار وإنما قدمت لاقتضائها الصدارة كما هو رأيُ الجمهورِ وأياً ما كان فالمشيئةُ على إطلاقها إذ لا فائدةَ بل لا وجهَ لاعتبار عدمِ مشيئة الإلجاءِ خاصة في إنكار الترتيبِ عليه أو ترتيب الإنكارِ عليه وفي إيلاء الاسم حرف الاستفهام إيذان بأن الإكراهَ أمرٌ ممكنٌ لكن الشأنَ في المكرَه مَنْ هو وما هو إلا هو وحده لا يشارك فيه لأنه القادرُ على أن يفعل في قلوبهم ما يضطرهم إلى الإيمان وذلك غيرُ مستطاعٍ للبشر وفيه إيذانٌ باعتبار الإلجاءِ في المشيئة كما أشير إليه { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ } بـيانٌ لتبعية إيمانِ النفوس المؤمنةِ لمشيئته تعالى وجوداً بعد بـيانِ الدوران الكليِّ عليها وجوداً وعدماً أي ما صح وما استقام لنفس من النفوس التي علم الله تعالى أنها تؤمنُ { أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } أي بتسهيله ومنحِه للألطاف وإنما خُصت النفسُ بمن ذُكر ولم يُجعل من قبـيل قولِه تعالى:وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } [آل عمران: 145] لأن الاستثناءَ مفرَّغٌ من أعم الأحوال أي ما كان لنفس أن تؤمن في حال من أحوالها إلا حالَ كونِها ملابسةً بإذنه تعالى فلا بد من كون الإيمانِ مما يؤول إليه حالُها كما أن الموتَ مآلٌ لكل نفس بحيث لا محيصَ لها عنه فلا بد من تخصيص النفسِ بمن ذكر فإن النفوسَ التي علم الله أنها لا تؤمنُ ليس لها حالٌ تؤمن فيها حتى يستثنى تلك الحال من غيرها { وَيَجْعَلُ ٱلرّجْسَ } أي الكفر بقرينة ما قبله عبر عنه بالرجس الذي هو عبارةٌ عن القبـيح المستقذَر المستكرَه لكونه علماً في القبح والاستكراه وقيل: هو العذاب أو الخِذلان المؤدي إليه وقرىء بنون العظمة وقرىء بالزاي أي يجعل الكفرَ ويبقيه { عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ } لا يستعملون عقولهم بالنظر في الحجج والآيات أو لا يعقلون دلائله وأحكامه لما على قلوبهم من الطبع فلا يحصُل لهم الهدايةُ التي عبّر عنها بالإذن فيبقَون مغمورين بقبائح الكفرِ والضلال أو مقهورين بالعذاب والنَّكال والجملةُ معطوفةٌ على مقدر ينسحب عليه النظمُ الكريم كأنه قيل: فيأذن لهم بمنح الألطافِ ويجعل الخ.