الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا ظَنُّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ } * { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذٰلِكَ وَلاۤ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }

{ وَمَا ظَنُّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ } كلامٌ مسوقٌ من قِبَله تعالى لبـيان هولِ ما سيلقَونه غيرُ داخلٍ تحت القولِ المأمورِ به والتعبـيرُ عنهم بالموصول في موقع الإضمارِ لقطع احتمالِ الشق الأولِ من التردد والتسجيلِ عليهم بالافتراء وزيادةِ الكذب مع أن الافتراءَ لا يكون إلا كذباً لإظهار كمالِ قبحِ ما افتعلوا وكونِه كذباً في اعتقادهم أيضاً، وكلمةُ (ما) استفهاميةٌ وقعت مبتدأً وظن خبرُها ومفعولاه محذوفان وقوله عز وجل: { يَوْمُ ٱلْقِيَـٰمَةِ } ظرفٌ لنفس الظنِّ، أي أيُّ شيءٍ ظنُّهم في ذلك اليوم، يومَ عرضِ الأفعال والأقوالِ والمجازاة عليها مثقالاً بمثقال، والمرادُ تهويلُه وتفظيعُه بهول ما يتعلق به مما يُصنع بهم يومئذ، وقيل: هو ظرفٌ لما يتعلق به ظنُّهم اليومَ من الأمور التي ستقع يوم القيامة تنزيلاً له ولِما فيه ـ من الأحوال لكمال وضوحِ أمرِه في التقرير والتحققِ ـ منزلةَ المسلم عندهم أي أيُّ شيء ظنُّهم لما سيقع يوم القيامة؟ أيحسبون أنهم لا يُسألون عن افترائهم أو لا يجازون عليه أو يجازون جزاءً يسيراً ولأجل ذلك يفعلون ما يفعلون؟ كلا إنهم لفي أشدِّ العذاب لأن معصيتَهم أشدُّ المعاصي، ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً، وقرىء على لفظ الماضي، أي أيُّ ظنَ ظنوا يوم القيامة؟ وإيرادُ صيغةِ الماضي لأنه كائنٌ فكأنه قد كان { إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ } أي عظيم لا يُكتنه كنهُه { عَلَى ٱلنَّاسِ } أي جميعاً حيث أنعم عليهم بالعقل المميّز بـين الحقِّ والباطلِ والحسَنِ والقبـيحِ ورحِمهم بإنزال الكتبِ وإرسالِ الرسلِ وبـيّن لهم الأسرارَ التي لا تستقلُ العقولُ في إدراكها وأرشدهم إلى ما يُهمّهم من أمر المعاشِ والمعاد { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ } تلك النعمةَ الجليلةَ فلا يصرِفون قُواهم ومشاعرَهم إلى ما خُلقت له ولا يتبعون دليلَ الشرعِ فيما لا يدرك إلا به، وقد تفضل عليهم ببـيان ما سيلقَوْنه يوم القيامة فلا يلتفتون إليه فيقعون فيما يقعون فهو تذيـيلٌ لما سبق مقرِّرٌ لمضمونه.

{ وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ } أي في أمر، من شأنْتُ شأْنه أي قصدتُ قصدَه مصدر بمعنى المفعول { وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ } الضميرُ للشأنِ والظرفُ صفةٌ لمصدر محذوفٍ أي تلاوةً كائنةً من الشأن إذ هي معظمُ شؤونِه عليه السلام أو للتنزيل، والإضمارُ قبل الذكر لتفخيم شأنِه، ومن ابتدائيةٌ أو تبعيضيةٌ أو لله عز وجل ومن ابتدائيةٌ والتي في قوله تعالى: { مِن قُرْءانٍ } مزيدةٌ لتأكيد النفيِ أو ابتدائيةٌ على الوجه الأول وبـيانية أو تبعيضيةٌ على الثاني والثالث { وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ } تعميمٌ للخطاب إثرَ تخصيصِه بمقتضى الكلِّ وقد رُوعي في كل من المقامين ما لا يليق به حيث ذُكر أولاً من الأعمال ما فيه فخامةٌ وجلالةٌ وثانياً ما يتناول الجليلَ والحقيرَ { إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا } استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم أحوال المخاطبـين بالأفعال الثلاثة أي ما تلابِسون بشيء منها حال من الأحوال إلا حالَ كونِنا رُقباءَ مطّلعين عليه حافظين له { إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ } أي تخوضون وتندفعون فيه، وأصلُ الإفاضة الاندفاعُ بكثرة أو بقوة، وحيث أريد بالأفعال السابقةِ الحالةُ المستمرَّةُ الدائمةُ المقارنةُ للزمان الماضي أيضاً أوثر في الاستثناء صيغةُ الماضي وفي الظرف كلمةُ إذ التي تفيد المضارعَ معنى الماضي { وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ } أي لا يبعُد ولا يغيب على علمه الشامل، وفي التعرض لعنوان الربوبـيةِ من الإشعار باللطف ما لا يخفى وقرىء بكسر الزاءِ { مِن مّثْقَالِ ذَرَّةٍ } كلمةُ مِنْ مزيدةٌ لتأكيد النفي أي ما يعزُب عنه ما يساوي في الثقل نملةً صغيرةً أو هباءً { فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِى ٱلسَّمَاء } أي في دائرة الوجودِ والإمكان فإن العامة لا تعرِف سواهما ممكناً ليس في أحدهما أو متعلِّقاً بهما، وتقديمُ الأرضِ لأن الكلامَ في حال أهلِها والمقصودُ إقامةُ البرهانِ على إحاطة علمِه تعالى بتفاصيلها وقوله تعالى: { وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذٰلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ } كلامٌ برأسه مقرِّرٌ لما قبله ولا نافيةٌ للجنس وأصغرَ اسمُها وفي كتاب خبرُها وقرىء بالرفع على الابتداء والخبر (في كتاب).

السابقالتالي
2