الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّيۤ إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ } * { وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي ٱلأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِٱلْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }

{ وَيَسْتَنْبِئُونَكَ } أي يستخبرونك فيقولون على طريقة الاستهزاءِ أو الإنكار: { أَحَقٌّ هُوَ } أحقٌّ خبرٌ قُدم على المبتدإ الذي هو الضميرُ للاهتمام به ويؤيده قوله تعالى: { إِنَّهُ لَحَقٌّ } أو مبتدأٌ والضميرُ مرتفعٌ به سادٌّ مسدَّ الخبر، والجملةُ في موقع النصب بـيستنبئونك، وقرىء أألحقُّ هو، تعريضاً بأنه باطلٌ كأنه قيل: أهو الحق لا الباطل؟ أو أهو الذي سميتموه الحقَّ؟ { قُلْ } لهم غيرَ ملتفتٍ إلى استهزائهم مغضياً عما قصدوا وبانياً للأمر على أساس الحكمة { إِى وَرَبّى } (إي) من حروف الإيجابِ بمعنى نعم في القسم خاصةً كما أن هل بمعنى قد في الاستفهام خاصةً، ولذلك يوصل بواوه { إِنَّهُ } أي العذابُ الموعودُ { لَحَقُّ } لثابتٌ البتةَ، أُكّد الجوابُ بأتم وجوهِ التأكيدِ حسب شدةِ إنكارِهم وقوتِه، وقد زيد تقريراً وتحقيقاً بقوله عز اسمُه: { وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } أي بفائتين العذابَ بالهرب وهو لاحقٌ بكم لا محالة وهو إما معطوفٌ على جواب القسم أو مستأنفٌ سيق لبـيانِ عجزِهم عن الخلاص مع ما في من التقدير المذكور { وَلَوْ أَنَّ لِكُلّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ } بالشرك أو التعدّي على الغير أو غيرِ ذلك من أصناف الظلمِ ولو مرةً حسبما يفيده كونُ الصفةِ فعلاً { مَّا فِى ٱلأَرْضِ } أي ما في الدنيا من خزائنها وأموالِها ومنافعها قاطبةً بما كثُرت { لاَفْتَدَتْ بِهِ } أي لجعلتْه فديةً لها من العذاب من افتداه بمعنى فداه { وَأَسَرُّواْ } أي النفوسُ المدلولُ عليها بكل نفسٍ، والعدولُ إلى صيغة الجمعِ مع تحقق العمومِ في صورة الإفرادِ أيضاً لإفادة تهويلِ الخطبِ بكون الإسرارِ بطريق المعيةِ والاجتماع، وإنما لم يُراعَ ذلك فيما سبق لتحقيق ما يُتوخىٰ من فرض كونِ جميعِ ما في الأرض لكل واحدةٍ من النفوس، وإيثارُ صيغةِ جمعِ المذكرِ لحمل لفظ النفسِ على الشخص أو لتغليب ذكورِ مدلولِه على إناثه { ٱلنَّدَامَةَ } على ما فعلوا من الظلم أي أخفَوْها ولم يظهروها لكن لا للاصطبار والتجلد هيهاتَ ولاتَ حينَ اصطبارٍ بل لأنهم بُهتوا { لَمَّا رَأَوُاْ ٱْلَعَذَابَ } أي عند معاينتِهم من فظاعة الحالِ وشدةِ الأهوالِ ما لم يكونوا يحتسبوا فلم يقدروا على أن ينطِقوا بشيء، (فلما) بمعنى حين منصوبٌ بأسرّوا أو حرفُ شرطٍ حذف جوابُه لدِلالة ما تقدم عليه، وقيل: أسرها رؤساؤُهم ممن أضلوهم حياءً منهم وخوفاً من توبـيخهم، ولكن الأمرَ أشدُّ من أن يعترِيَهم هناك شيءٌ غيرَ خوفِ العذاب، وقيل: أسروا الندامةَ أخلصوها لأن إسرارها إخلاصُها أو لأن سرَّ الشيءِ خالصتُه حيث تُخْفىٰ ويُضَنّ بها، ففيه تهكمٌ بهم. وقيل: أظهروا الندامةَ من قولهم: أسرَّ الشيء وأشره إذا أظهره حين عيل صبرُه وفنِيَ تجلُّده { وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ } أي أُوقع القضاءُ بـين الظالمين من المشركين وغيرِهم من أصناف أهل الظلمِ بأن أُظهر الحقُّ سواءٌ كان من حقوق الله سبحانه أو من حقوق العبادِ من العباد من الباطل، وعومل أهلُ كل منهما بما يليق به { بِٱلْقِسْطِ } بالعدل، وتخصيصُ الظلم بالتعدي وحملُ القضاء على مجرد الحكومةِ بـين الظالمين والمظلومين من غير أن يُتعرَّضَ لحال المشركين وهم أظلمُ الظالمين لا يساعدُه المقامُ فإن مقتضاه كونُ الظلم عبارةً عن الشرك أو عما يدخُل فيه دخولاً أولياً { وَهُمْ } أي الظالمون { لاَ يُظْلَمُونَ } فيما فعل بهم من العذاب بل هو من مقتضيات ظلمِهم ولوازمِه الضرورية.