الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ }

{ إِنَّ رَبَّكُمُ } كلامٌ مستأنفٌ سيق لإظهار بطلانِ تعجُّبهم المذكورِ وما بنَوا عليه من المقالة الباطلةِ غِبَّ الإشارةِ إليه بالإنكار والتعجيبِ وحُقّق فيه حقيةُ ما تعجبوا منه وصِحّةُ ما أنكروه بالتنبـيه الإجمالي على بعض ما يدل عليها من شؤون الخلقِ والتقديرِ وأحوالِ التكوينِ والتدبـيرِ، ويُرشدهم إلى معرفتها بأدنى تذكيرٍ لاعترافهم به من غير نكيرٍ لقوله تعالى:قُلْ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَـٰوَاتِ ٱلسَّبْعِ وَرَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } [المؤمنون: 86 - 87] وقوله تعالى:قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ ٱلسَّمَاء وَٱلأَرْضِ } [يونس: 31] إلى قوله تعالى:وَمَن يُدَبّرُ ٱلأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ ٱللَّهُ } أي إن ربكم ومالكَ أمرِكم الذي تتعجبون من أن يرسِل إليكم رجلاً منكم بالإنذار والتبشيرِ وتُعدّون ما أوحيَ إليه من الكتاب الحكيم سحراً هو { ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } وما فيهما من أصول الكائنات { فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } أي في ستة أوقاتٍ أو في مقدار ستةِ أيام معهودةٍ فإن نفسَ اليوم الذي هو عبارةٌ عن زمان كونِ الشمس فوق الأرض مما لا يتصور تحققُه حين لا أرضَ ولا سماء، وفي خلقها مدرّجاً ـ مع القدرة التامةِ على إبداعها دفعةً ـ دليلٌ على الاختيار واعتبارٌ للنظّار وحثٌّ لهم على التأنيّ في الأحوال والأطوار، وأما تخصيصُ ذلك بالعدد المعينِ فأمرٌ قد استأثر بعلم ما يستدعيه علامُ الغيوب جلت قدرتُه ودقتْ حكمتُه وإيثارُ صيغةِ الجمعِ في السموات لما هو المشهورُ من الإيذان بأنها أجرامٌ مختلفةُ الطباعِ متباينةُ الآثارِ والأحكام { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } العرشُ هو الجسمُ المحيطُ بسائر الأجسامِ سمِّي به لارتفاعه أو للتشبـيه بسرير الملِك فإن الأوامرَ والتدابـير منه تنزل، وقيل: هو المُلك ومعنى استوائِه سبحانه عليه استيلاؤُه عليه أو استواءُ أمرِه. وعن أصحابنا أن الاستواءَ على العرش صفةٌ له سبحانه بلا كيف. والمعنى أنه سبحانه استوى على العرش على الوجه الذي عناه منزَّهاً عن التمكن والاستقرار، وهذا بـيانٌ لجلالة مُلكه وسلطانِه بعد زمان عظمةِ شأنِه وسَعة قدرتِه بما مر من خلق هاتيك الأجرامِ العظام.

{ يُدَبّرُ ٱلأَمْرَ } التدبـيرُ النظرُ في أدبار الأمورِ وعواقبِها لتقعَ على الوجه المحمودِ والمرادُ هٰهنا التقديرُ على الوجه الأتمِّ الأكملِ والمرادُ بالأمر أمرُ ملكوتِ السمواتِ والأرضِ والعرشِ وغيرُ ذلك من الجزيئات الحادثةِ شيئاً فشيئاً على أطوار شتى وأنحاء لا تكاد تحصى من المناسبات والمبايناتِ في الذوات والصفاتِ والأزمنةِ والأوقاتِ أي يقدّر ما ذُكر من أمر الكائناتِ الذي ما تعجبوا منه من أمر البعث والوحي فردٌ من جملته وشُعبةٌ من دوحته، ويهيـيء أسبابَ كل منها حدوثاً وبقاءً في أوقاتها المعينةِ ويرتب مصالحَها على الوجه الفائقِ والنمطِ اللائقِ حسبما تقتضيه الحكمةُ وتستدعيه المصلحةُ، والجملةُ في محل النصبِ على أنها حالٌ من ضمير استوىٰ وقد جوز كونُها خبراً ثانياً لإن أو مستأنفةٌ لا محل لها من الإعراب مبنيةٌ على سؤال نشأ من ذكر الاستواءِ على العرش المنبىءِ عن إجراء أحكامِ المُلك.

السابقالتالي
2