الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ ٱلنَّاسَ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ ٱلْكَافِرُونَ إِنَّ هَـٰذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ }

{ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا } الهمزةُ لإنكار تعجّبِهم ولتعجب السامعين منه لكونه في غير محلِّه، والمرادُ بالناس كفارُ مكةَ، وإنما عبِّر عنهم باسم الجِنسِ من غير تعرُّضٍ لكفرهم ـ مع أنه المدارُ لتعجبهم كما تُعُرِّض له في قوله عز وجل: { قَالَ ٱلْكَـٰفِرُونَ } الخ ـ لتحقيق ما فيه الشركةُ بـينهم وبـين رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وتعيـينِ مدارِ التعجبِ في زعمهم ثم تبـيـينِ خطئِهم وإظهارِ بطلانِ زعمِهم بإيراد الإنكارِ والتعجيب، واللامُ متعلقةٌ بمحذوف وقع حالاً من عجباً وقيل: بعجباً على التوسع المشهورِ في الظروف، وقيل: المصدرُ إذا كان بمعنى اسم الفاعلِ أو اسمِ المفعول جاز تقديمُ معمولِه عليه، وقيل: متعلقةٌ بكان وهو مبنيٌّ على دلالة كان الناقصةِ على الحدث { أَنْ أَوْحَيْنَا } اسمُ كان قُدِّم عليه خبرُها اهتماماً بشأنه لكونه مدارَ الإنكارِ والتعجيبِ وتشويقاً إلى المؤخَّر ولأن في الاسم ضربَ تفصيلٍ ففي مراعاة الأصلِ نوعُ إخلالٍ يتجاوب أطرافِ الكلام، وقرىء برفع عجب على أنه الاسمُ وهو نكرةٌ والخبرُ أن أوحينا وهو معرفةٌ لأن أن مع الفعل في تأويل المصدرِ المضافِ إلى المعرفة البتةَ والمختارُ حينئذ أن تجعل كان تامةٌ وأن أوحينا متعلقاً بعجبٌ على حذف حرف التعليل أي أحدث للناس عجبٌ لأن أوحينا أو من أن أوحينا، أو بدلاً من عجبٌ لكن لا على توجيه الإنكارِ والتعجيب إلى حدوثه بل إلى كونه عجباً، فإن كونَ الإبدال في حكم تنحيةِ المبدَلِ منه ليس معناه إهدارَه بالمرة وإنما قيل: للناس لا عند الناس للدِلالة على أنهم اتخذوه أعجوبةً لهم، وفيه من زيادة تقبـيحِ حالِهم ما لا يخفى { إِلَىٰ رَجُلٍ مّنْهُمْ } أي إلى بشر من جنسهم كقولهم: أبعث الله بشراً رسولاً أو من حيث المال لا من عظمائهم كقولهم:لَوْلاَ نُزّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانُ عَلَىٰ رَجُلٍ مّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف: 31] وكلا الوجهين من ظهور البطلانِ بحيث لا مزيد عليه. أما الأولُ فلأن بعثَ الملَكِ إنما يكون عند كون المبعوثِ إليهم ملائكةً كما قال سبحانه:قُل لَوْ كَانَ فِى ٱلأَرْضِ مَلَـٰئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ ٱلسَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً } [الإسراء: 95] وأما عامة البشر فهم بمعزل من استحقاق المفاوضةِ الملكية كيف لا وهي منوطةٌ بالتناسب والتجانس، فبعثُ الملَكِ إليهم مزاحِمٌ للحكمة التي عليها يدور فلكُ التكوين والتشريع وإنما الذي تقتضيه الحكمةُ أن يُبعث الملكُ من بـينهم إلى الخواصّ المختصين بالنفوس الزكية المؤيَّدين بالقوة القدسيةِ المتعلّقين بكلا العالَمين الروحانيِّ والجُسماني ليتلقَّوْا من جانب ويُلْقوا إلى جانب. وأما الثاني فلما أن مناطَ الاصطفاء للنبوة والرسالةِ هو التقدُم في الاتصاف بما ذكر من النعوت الجميلةِ والصفاتِ الجليلة والسبْقِ في إحراز الفضائلِ العلية وحيازةِ الملَكات السنية جِبِلّةً واكتساباً، ولا ريب لأحد منهم في أنه عليه الصلاة والسلام في ذلك الشأنِ في غاية الغاياتِ القاصيةِ ونهايةِ النهاياتِ النائيةِ، وأما التقدمُ في الرياسات الدنيويةِ والسبْقِ في نيل الحظوظِ الدنية فلا دخلَ له في ذلك قطعاً بل له إخلالٌ به غالباً قال عليه الصلاة والسلام:

السابقالتالي
2