الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلتِّينِ وَٱلزَّيْتُونِ } * { وَطُورِ سِينِينَ } * { وَهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ ٱلأَمِينِ } * { لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِيۤ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } * { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ } * { إِلاَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } * { فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِٱلدِّينِ } * { أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَحْكَمِ ٱلْحَاكِمِينَ }

ولما كان التين أحسن الفواكه تقويماً فيما ذكروا من فضيلته، وهو مع كونه فاكهة شهية حلوة جداً - غذاء يقيم الصلب وقوت كالبر وسريع الهضم، ودواء كثير النفع يولد دماً صالحاً وينفع الرئة والكلى ويلين الطبع ويحلل البلغم ويزل رمل المثانة ويفتح سدد الكبد والطحال، فكان جامعاً لجميع منافع المتناولات من الغذاء والتفكه والتحلي والتداوي، فهو كامل في مجموع ما هو فيه من لذة طعمه وكثرة نفعه، وكونه كفاكهة الجنة بلا شائبة تعوق عن أكله من صنوان يتعب أو نوى يرمى، مع أنه ينتفع به رطباً ويابساً، وهو مع ذلك في سرعة فساده وسوء تغيره أسفلها رتبة وأردؤها مغبة، فهو كالفطرة الأولى في مبدئه سهولة وحسناً وقبولاً لكل من الإصلاح والتغير، كآخر الهرم عند نهايته في عظيم تغيره بحيث إنه لا ينتفع بشيء منه إذا تغير، وغيره من الفواكه إذا فسد جانب منه بقي آخر فكان في هذا كالقسم للسافل من الإنسان أقسم الله تعالى به فقال: { والتين } بادئاً به لأن القسم المشار به إليه أكثر، فالاهتمام به أكبر.

ولما كان الزيتون في عدم فساد يطرقه أو تغير يلحقه، وفيه الدسومة والحرافة والمرارة، وهو إدام ودواء مع تهيئه للنفع بكل حال في أكله بعد تزييته والتنوير بدهنه والادهان به لإزالة الشعث وتنعيم البشرة وتقوية العظم وشد العصب وغير ذلك من المنافع مع لدنه وما يتبع ذلك من فضائله الجمة كالمؤمن تلاه به فقال: { والزيتون * } ولما كان مع ذلك مشاراً بهما إلى مواضع نباتهما وهي الأرض المقدسة من جميع بلاد الشام إيماء إلى من كان بها من الأنبياء والتابعين لهم بإحسان لا سيما إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي كانت مهاجره فأحياها الله تعالى بعباده وتردد الملائكة إليه بالوحي ومن بعده أولاده الذين طهرها الله بهم من الشرك وأنارها بهم بالتوحيد، وختمهم بعيسى عليه الصلاة والسلام أحد أولي العزم المشرف بكونه من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، وكانت الكناية بالشجرتين عن البلد المراد به سكانه أبلغ من التصريح بالمراد من أول وهلة، ساقه على هذا المنهج العزيز، ولم يبق ممن لم يسكنها من أشرافهم إلا موسى وهارون وإسماعيل ومحمد عليهم الصلاة والسلام، فأشار إلى الأولين بقوله معبراً بما يدل على أحسن التقويم لأن الطور الجبل ذو النبت من النجم والشجر المثمر وغيره: { وطور } أي جبل المكان المسمى بهذا الاسم.

ولما كان الكلام في التقويم، كان المناسب له صورة جمع السلامة فقال تعالى: { سينين * } أي وما كان بالجبل ذي النبت الحسن الذي كلم الله فيه موسى عليه الصلاة والسلام من لذيذ المناجاة وعجائب المواعدة وحكم الكلام مع أن فيه من الأشجار والأماكن ما يكنّ من الحر والبرد، وفيه لخلوه وحسنه وعلوه جمع الخاطر للمتفرد وطمأنينة النفس للتخلي للعبادة والتحصن مما يخشى لعلوه وصعوبته، وفيه ما يصلح للزرع من غير كلفة، وفيه ما يأكله الناس والدواب مع الماء العذب والفناء الرحب والمنظر الأنيق، وسنين وسيناء - اسم للموضع الذي هذا الجبل به، وأشار سبحانه وتعالى إلى الأخيرين من أولاد إبراهيم عليه الصلاة والسلام ختاماً للقسم بأكمل المقسم به كما جعل المنزل عليه ذلك الذي هو ختام الرسل أكمل النوع المقسم لأجله ليكون في البدء بما يرد بعد حسن التقويم الى الفساد والختم بما هو أشرف المذكورين بكل اعتبار طباق حاز أعلى الأسرار: { وهذا البلد } أي مكة، صرح هنا بهذين المكانين ترشيحاً لأن المراد بالأولين مواضع نبتهما مع تلك الإشارة اللطيفة بذكر اسميهما إلى مناسبتهما للمقسم من أجله { الأمين * } أي الذي يأمن فيه من حل به من البشر والطير والوحش، فكان بذلك كالرجل الأمين الذي يأتمنه آخر على نفسه وما يعز عليه فيؤديه إليه ويوقره عليه، وأمانته شاملة لكل ما يخشى حتى الفقر والعيلة والجوع وتغير الدين بعد تقرره مع أن به البيت الذي جعله الله هدى للعالمين وقياماً للناس فهو مدار الدين والدنيا، وكان به من الأسرار بالوحي وآثاره ما لم يكن في بلد من البلاد، وذلك إشارة إلى أنه تعالى كما جعل النبي المبعوث منه في آخر الزمان في أحسن تقويم جعله في أحسن تقويم البلدان إذ كان آمنا من غير ملك مرهوب - والناس يتخطفون من حوله، وهو محل الأنس بالناس كما أن الذي قبله محل الأنس بالانفراد، وهو مجمع المرافق ومعدن المنافع ومحل ذوي الوجاهة ديناً ودنيا، ومحل الرفعة والمناصب مع ما حازه المكانان من تنزل الكتب السماوية وإشراق الأنوار الإلهية الدينية فيهما، وفي ذلك تخويف لهم بأنهم إن لم يرجعوا عن غيهم أخافه إخافة لم يخفها بلداً من بلاد العرب فيكونون بذلك قد ردوا أسفل سافلين في البلد، كما ردوا في الأخلاق بالشقاق واللداد.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7