الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلشَّمْسِ وَضُحَاهَا } * { وَٱلْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا } * { وَٱلنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا } * { وَٱللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا } * { وَٱلسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا } * { وَٱلأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا } * { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } * { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا }

لما أثبت في سورة البلد أن الإنسان في كبد، وختمها بأن من حاد عن سبيله كان في أنكد النكد، وهو النار المؤصدة، أقسم أول هذه على أن الفاعل لذلك أولاً وآخراً هو الله سبحانه لأنه يحول بين المرء وقلبه وبين القلب ولبه، فقال مقسماً بما يدل على تمام علمه وشمول قدرته في الآفاق علويها وسفليها، والأنفس سعيدها وشقيها وبدأ بالعالم العلوي، فأفاد ذلك قطعاً العلم بأنه الفاعل المختار، وعلى العلم بوجوب ذاته وكمال صفاته، وذلك أقصى درجات القوى النظرية، تذكيراً بعظائم آلائه، ليحمل على الاستغراق في شكر نعمائه، الذي هو منتهى كمالات القوى العملية، مع أن أول المقسم به مذكر بما ختم به آخر تلك من النار: { والشمس } أي الجامعة بين النفع والضر بالنور والحر، كما أن العقول كذلك لا أنور منها إذا نارت، ولا أظلم منها إذا بارت { وضحاها * } أي وضوئها الناشىء عن جرمها العظيم الشأن البديع التكوين المذكر بالنيران إذا أشرقت وقام سلطانها كإشراق أنوار العقول، والضحى - بالضم والقصر: صدر النهار حين ارتفاعه، وبالفتح والمد: شدة الحر بعد امتداد النهار، وشيء ضاح - إذا ظهر للشمس والحر.

ولما افتتح بذكر آية النهار، أتبعه ذكر آية الليل فقال: { والقمر } أي المكتسب من نورها كما أن أنوار النفوس من أنوار العقول { إذا تلاها * } أي تبعها في الاستدارة والنور بما دل على أن نوره من نورها من القرب الماحق لنوره والبعد المكتسب له في مقدار ما يقابلها من جرمه، ولا يزال يكثر إلى أن تتم المقابلة فيتم النور ليلة الإبدار عند تقابلهما في أفق الشرق والغرب، ومن ثم يأخذ في المقاربة فينقص بقدر ما ينحرف عن المقابلة، ونسبة التبع إليه مجازية أطلقت بالنسبة إلى ما ينظر منه كذلك.

ولما ذكر الآيتين، ذكر ما هما آيتاه، وبدا بهما لأنه لا صلاح له إلا بهما كما أنه لا صلاح للبدن إلا بالنفس والعقل فقال: { والنهار } أي الذي هو محل الانتشار فيما جرت به الأقدار { إذا جلاها * } أي جلى الشمس بحلية عظيمة بعضها أعظم من بعض باعتبار الطول والقصر والصحو والغيم والضباب والصفاء والكدر كما أن الأبدان تارة تزكي القلوب والنفوس والعقول وتارة تدنسها، لأن العقل يكون في غاية الصفاء والدعاء إلى الخير في حال الصغر ثم لا يزال يزيد وينقص بحسب زكاء البدن في حسن الجبلة، أو نجاسته بسوء الجبلة، حتى يصير الشخص نوراً محضاً ملكاً ناطقاً إذا طابق البدن العقل فتعاونا على الخير، أو يصير ظلاماً بحتاً شيطاناً رجيماً إذ خالف البدن العقل بسوء الجبلة وشرارة الطبع.

ولما ذكر معدن الضياء، ذكر محل الظلام فقال: { والليل } أي الذي هو ضد النهار فهو محل السكون والانقباض والكمون { إذا يغشاها * } أي يغطي الشمس فيذهب ضوءها حين تغيب فتمتد ظلال الأرض على وجهها المماس لنا، فيأخذ الأفق الشرقي في الإظلام، ويمتد ذلك الظلام بحسب طول الليل وقصره كما يغطي البدن نور العقل بواسطة طبعه بخبثه ورداءة عنصره، وذلك كله بمقادير معلومة، وموازين قسط محتومة، ليس فيها اختلال، ولا يعتريها انحلال، حتى يريد ذو الجلال، ولم يعبر بالماضي كما في النهار لأن الليل لا يذهب الضياء بمرة بل شيئاً فشيئاً، ولا ينفك عن نور بخلاف النهار، فإنه إذا أبدى الشمس ولم يكن غيم ولا كدر جلى الشمس في آن واحد، فلم يبق معه ظلام بوجه.

السابقالتالي
2 3 4