الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً } * { أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ } * { أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ } * { وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ } * { وَهَدَيْنَاهُ ٱلنَّجْدَينِ } * { فَلاَ ٱقتَحَمَ ٱلْعَقَبَةَ } * { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْعَقَبَةُ } * { فَكُّ رَقَبَةٍ } * { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ } * { يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ } * { أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ }

وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما أوضح سبحانه وتعالى حال من تقدم ذكره في السورتين في عظيم حيرتهم وسوء غفلتهم وما أعقبهم ذلك من التذكر تحسراً حين لا ينفع التندم، ولات حين مطمع، أتبع ذلك بتعريف نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام بأن وقوع ذلك منهم إنما جرى على حكم السابقة التي شاءها والحكمة التي قدرها كما جاء في الموضع الآخرولو شئنا لآتينا كل نفس هداها } [السجدة: 13] فأشار تعالى إلى هذا بقوله { لقد خلقنا الإنسان في كبد } أي أنا خلقناه لذلك ابتلاء ليكون ذلك قاطعاً لمن سبق له الشقاء عن التفكر والاعتباروإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً أبداً } [الكهف: 57] فأعماهم بما خلقهم فيه من الكبد وأغفل قلوبهم فحسبوا أنهم لا يقدر عليهم أحد، وقد بين سبحانه وتعالى فعله هذا بهم في قوله لنبيه صلى الله عليه وسلمولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه } [الكهف: 28]ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً } [يونس: 99] فأنت تشاهدهم يا محمد ذوي أبصار وآلات يعتبر بها النظار { ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين } فهلا أخذ في خلاص نفسه، واعتبر بحاله وأمسه، { فلا اقتحم العقبة } ولكن إذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له - انتهى.

ولما كان الإنسان لا يفتخر بالإنفاق إلا إذا أفضى إلى الإملاق، فعلم أن مراد الإشارة إلى أن معه أضعاف ما أنفق من حيث إنه حقره بلفظ الإهلاك، إشارة إلى الثانية والثالثة من شهواته النفسية وهما إرادته أن يكون له الفخار والامتنان على جميع الموجودات، وإرادته أن يكون عنده من الأموال ما لا تحيط به الأفكار ولا تحويه الأقطار - كما يشير إليه حديث " " لو أن لابن آدم واد من ذهب " و " لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب " " علل سبحانه وتعالى جهله في حسابه ذلك وما تبعه بقوله: { يقول } أي مفتخراً بقدرته وشدته: { أهلكت مالاً لبدا * } ولقصد المبالغة في كثرته جاءت قراءة أبي جعفر بالتشديد على أنه جمع لا بد كركع وراكع فأفهمت أنه بحيث لا يحصى، بل لو جمع لم تسعه الأرض إلا بأن يكون بعضه على بعض فلا يعد ولا يحد، أي وذلك قليل من الكثير الذي معي، قلدت به أعناق الرجال المنن، واستعبدت به الأحرار في كل زمن، فصرت بحيث إذا دعوت كثر الملبي، وإذا ناديت كثر المجيب، وإذا أمرت عظم الممتثل، وفاء لصنائعي الماضية ورغبة في نعمي الباقية، فمن يستعصي عليّ ومن يخالف أمري، فضلاً عن أن يريد إخمال ذكري أو نقص قدري.

ولما كان الشيء لا يعني إلا إذا كان مجهولاً ولو من بعض الجهات، أنكر عليه هذا الظن على تقدير وقوعه فإنه لا يوصل إلى ما ظنه إلا به، بقوله مشيراً إلى شهوته النفسية الرابعة، وهي أن تكون أموره مستورة فلا يظهر على غيه أحد أصلاً: { أيحسب } أي هذا الإنسان العنيد بقلة عقله { أن لم يره } أي بالبصر ولا بالبصيرة في الزمن الماضي { أحد * } أي في عمله هذا سره وجهره وجميع أمره، فينقص جميع ما عمل إذا أراد، وكل ما فاته من آثار هذه الشهوات الأربع، وهو لا يزال فائتاً له، كان من إرادة تحصيله في نكد ومعاناة وكبد بحيث يرمي نفسه لتحصيله في المهالك، ولا يحصل منه على ما يرضيه أبداً، وهذا كناية عن أنه يعمل من المساوىء أعمال من يظن أنه لا يطلع عليه، فلذلك نبهه الله تعالى بأنواع التنبيه ليأخذ حذره ويحرز عمره.

السابقالتالي
2 3 4 5