الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ لَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } * { ثُمَّ أَنَزلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَذٰلِكَ جَزَآءُ ٱلْكَافِرِينَ } * { ثُمَّ يَتُوبُ ٱللَّهُ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

ولما كان في بعض النفوس من الغرور بالكثرة ما يكسبها سكرة تغفلها عن بعض مواقع القدرة، ساق قصة حنين دليلاً على ذلك الذي أبهمه من التهديد جواباً لسائل كان كأنه قال: ما ذاك الأمر الذي يتربص لإتيانه ويخشى من عظيم شأنه؟ فقيل: الذل والهوان والافتقار والانكسار، فكأنه قيل: وكيف يكون ذلك؟ فقيل: بأن يسلط القدير عليكم - وإن كنتم كثيراً - أقوياء غيركم وإن كانوا قليلاً ضعفاء كما سلطكم - وقد كنتم كذلك - حتى صرتم إلى ما صرتم إليه: { لقد نصركم الله } أي الملك الأعلى مع شدة ضعفكم { في مواطن } أي مقامات ومواقف وأماكن توطنون فيها أنفسكم على لقاء عدوكم { كثيرة } أي من الغزوات التي تقدمت لكم كبدر وقريظة والنضير وقينقاع والحديبية وخيبر وغيرها من مخاصمات الكفار، وكنتم من الذلة والقلة والانكسار بحال لا يتخيل معها نصركم وظهوركم على جميع الكفار وأنتم فيهم كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، وما وكلكم إلى مناصرة من تقدم أمره لكم بمقاطعتهم، فدل ذلك على أن من أطاع الله ورجع الدين على الدنيا آتاه الله الدين والدنيا على أحسن الوجوه وإن عاداه الناس أجمعون، ودل بما بعدها من قصة حنين على أن من اعتمد على الدنيا فاته الدين والدنيا إلا أن يتداركه الله برحمته منه فيرجع به. فقال تعالى: { ويوم } أي ونصركم بعد أن قواكم وكثركم هو وحده، لا كثرتكم وقوتكم يوم { حنين } وهو واد بين مكة والطائف إلى جانب ذي المجاز، وهو إلى مكة أقرب، وراء عرفات إلى الشمال.

ولما كان سلمة بن سلامة بن وقش الأنصاري رضي الله عنه قد قال حين التقى الجمعان وأعجبته كثرة الناس: لن نغلب اليوم من قلة! فساء النبي صلى الله عليه وسلم كلامه وأن يعتمد إلا على الله، وكان الإعجاب سمّاً قاتلاً للأسباب، أدبنا الله سبحانه في هذه الغزوة بذكر سوء أثره لنحذره، ثم عاد سبحانه بالإنعام لكون الذي قاله شخصاً واحداً كره غيره مقاتله. فقال: { إذ } أي حين { أعجبتكم كثرتكم } أي فقطعتم لذلك أنه لا يغلبها غالب، وأسند سبحانه الفعل للجمع إشارة إلى أنهم لعلو مقامهم ينبغي أن لا يكون منهم من يقول مثل ذلك { فلم تغن عنكم شيئاً } أي من الإغناء { وضاقت عليكم الأرض } أي الواسعة { بما رحبت } أي مع اتساعها فصرتم لا ترون أن فيها مكاناً يحصنكم مما أنتم فيه لفرط الرعب، فما ضاق في الحقيقة إلا ما كان من الآمال التي سكنت إلى الأموال والرجال، ولعل عطفه - لتوليهم بأداة التراخي في قوله: { ثم وليتم } أي تولية كثيرة ظهوركم الكفار، وحقق ذلك بقوله: { مدبرين* } أي انهزاماً مع أن الفرار كان حين اللقاء لم يتأخر - إشارة إلى ما كان عندهم من استعباده اعتماداً على القوة والكثرة { ثم أنزل الله } أي الذي له الإحاطة بصفات الكمال { سكينته } أي رحمته، وهي الأمر الذي يسكن القلوب عن أن تتأثر يدهمها من البلاء من الوثوق به سبحانه ومشاهدة جنابة الأقدس والغناء عن غيره.

السابقالتالي
2 3