الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ بَرَآءَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } * { فَسِيحُواْ فِي ٱلأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُخْزِي ٱلْكَافِرِينَ }

{ براءة } أي عظيمة، ثم وصفها بقوله: { من } أي حاصلة واصلة من { الله } أي المحيط بصفات الكمال، فهو العالم بمن يستحق الولاية ومن يستحق البراءة { ورسوله } أي المتابع لأمره لعلمه به.

ولما كانوا قد توقفوا في الحديبية كلهم أو كثير منهم تارة في نفس العهد وتارة في التأخر عن الأمر بالحلق، ثم تابعوا في كل منهما، وكان الكفار بمحل البعد عن كل خير، أشار إلى ذلك بأداة الغاية، وجعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع الله إشارة إلى أنه لا يخالفه أصلاً، وأسندت المعاهدة إليهم إشارة إلى ذلك التوقف تحذيراً من أن يقع مثله، فقال مخبراً عن النبذ الموصوف: { إلى الذين عاهدتم } أي أوقعتم العهد بينكم وبينهم { من المشركين* } أي وإن كانت معاهدتكم لهم إنما كانت بإذن من الله ورسوله، فكما فعلتم المعاهدة بإذنهما فافعلوا النقض تبعاً لهما، ودل سياق الكلام وما حواه من بديع الانتظام أن العهد إنما هو لأجل المؤمنين، وأما الله ورسوله فغنيان عن ذلك، أما الله فبالغنى المطلق، وأما الرسول صلى الله عليه وسلم فبالذي اختاره للرسالة لأنه ما فعل ذلك به إلا وهو قادر على نصره بسبب وبغير سبب، وعلم أن ذلك فيمن نقض أو قارب من قوله بعد { إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً } - الآية؛ قال البغوي: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك كان المنافقون يرجفون الأراجيف، وجعل المشركون ينقضون عهوداً كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر الله بنقض عهودهم وذلك قوله تعالىوإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم } [الأنفال: 58] انتهى. وذكر ذلك ابن إسحاق وغيره، ولعله أطلق هنا ولم يقيد ممن خيف نقضه ليكون ذلك أول السورة مؤذناً بأن الخيانة وهم بالنقض شأن أكثرهم ولا سيما مشركو قريش، وهم - لكون قريش رؤوس الناس والناس تبع لهم في الخير والشر - يستحقون أن يعبر عنهم بما يفهم الكل ومبنى هذه السورة على البراءة من المشركين والموالاة للمؤمنين الدال على إيمانهم طاعة الله بالصلاة والزكاة والجهاد لمن أمر بالبراءة منه قل أو كثر قرب أو بعد في المنشط والمكره والعسر واليسر.

ولما كان ظاهر الحال وقت تكامل نزولها - وهو شوال أو ذو العقدة أو ذو الحجة سنة تسع بعد مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك - أن الحرب قد وضعت أوزارها وأطفئت نارهم ببسط الإسلام في الخاص والعام، وما بين اليمن والشام، وانتشار ألويته وأعلامه، وتأيد رئيسه وإمامه بقهر جيوش الكفار، وقصد الناس له بالاتباع من جميع الأمصار، أكد أمر الجهاد ومصادمة الأنداد في هذه السورة تأكيداً لم يؤكد في غيرها؛ ذكر الواقدي في أواخر غزوة تبوك كلاماً ثم قال: قالو: وقدم رسول الله صلى لله عليه وسلم المدينة - يعني من غزوة تبوك - في رمضان سنة تسع ثم قال: وجعل المسلمون يبيعون أسلحتهم ويقولون: قد انقطع الجهاد، فجعل القوي منهم يشتريها لفضل قوته، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن ذلك وقال:

السابقالتالي
2 3 4 5 6