الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ } * { وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ ٱنصَرَفُواْ صَرَفَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } * { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } * { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ }

ولما كان التقدير تسبيباً عما جزم به من الحكم بعراقتهم في الرجس وازديادهم منه: أفلا يرون إلى تماديهم في النفاق وثباتهم عليه؟ عطف عليه تقريرهم بعذاب الدنيا والإنكار عليهم في قوله: { أولا يرون } أي المنافقون، قال الرماني: والرؤية هنا قلبية لأن رؤية العين لا تدخل على الجملة لأن الشيء لا يرى من وجوه مختلفة { أنهم } أي المنافقين؛ ولما كان مطلق وقوع الفتنة من العذاب، بنى للمفعول قوله: { يفتنون } أي يخالطون من حوادث الزمان ونوازل الحدثان بما يضطرهم إلى بيان أخلاقهم بإظهار سرائرهم في نفاقهم { في كل عام } أي وإن كان الناس أخصب ما يكونون وأرفعه عيشاً { مرة أو مرتين } فيفضحون بذلك، وذلك موجب للتوبة للعلم بأن من علم سرائرهم - التي هم مجتهدون في إخفائها - عالم بكل شيء قادر على كل مقدور، فهو جدير بأن تمتثل أوامره وتخشى زواجره.

ولما كان عدم توبتهم مع فتنتهم على هذا الوجه مستبعداً، أشار إليه بأداة التراخي فقال: { ثم لا يتوبون } أي لا يجددون توبة { ولا هم } أي بضمائرهم { يذكرون* } أي أدنى تذكر بما أشار إليه الإدغام، فلولا أنه حصلت لهم زيادة في الرجس لأوشك تكرار الفتنة أن يوهي رجسهم إلى أن يزيله ولكن كلما أوهى شيئاً خلقه مثله أو أكثر بسبب الزيادات المترتبة على وجود نجوم القرآن، والتذكر طلب الذكر للمعنى بالكفر فيه، فالآية ذامة لهم على عدم التوبة بإصابة المصائب لعدم تذكر أنه سبحانه ما أصابهم بها إلا بذنوبهمويعفو عن كثير } [الشورى: 34] كما أن أحدهم لا يعاقب فتاة إلا بذنب وما لم يتب فهو يوالي عقابه.

ولما ذكر ما يحدث منهم من القول استهزاء، أتبعه تأكيداً لزيادة كفرهم وتوضيحاً لتصويره ما يحدث من فعلهم استهزاء من الإيمان والتغامز بالعيون فقال { وإذا } وأكد بالنافي فقال: { ما } ولما كان الغرض نفس الإنزال لا تعيين المنزل، بني للمفعول قوله { أُنزلت سورة } أي طائفة من القران { نظر بعضهم } أي المنافقين { إلى بعض } أي متغامزين سخرية واستهزاء قائلين: { هل يراكم } وأكدوا العموم فقالوا: { من أحد } أي من المؤمنين إن انصرفتم، فإن يشق علينا سماع مثل هذا، ويشق علينا أن يطلع المؤمنون على هذا السر منا.

ولما كان انصرافهم عن مثل هذا المقام مستهجناً، أشار إلى شدة قبحه بأداة التراخي فقال: { ثم انصرفوا } أي إن لم يكن أحد يراهم، وإن رآهم أحد من المؤمنين تجشموا المشقة وثبتوا؛ ولما كانوا مستحقين لكل سوء، أخبر عنهم في أسلوب الدعاء بقوله: { صرف الله } أي الذي له الغنى المطلق والكمال كله { قلوبهم } أي عن الإيمان؛ ثم علل ذلك بقوله: { بأنهم قوم } وإن كانوا ذوي قوة على ما يحاولونه فإنهم { لا يفقهون* } أي قلوبهم مجبولة على عدم الفهم لما بها من الغلظة، وهذا دليل على ختام الآية قبلها، وهاتان الآيتان المختتمتان - بـ { لا يفقهون } التاليتان للأمر بالجهاد في قوله { قاتلوا الذين يلونكم من الكفار } الموازي - { انفروا خفافاً وثقالاً } الآية - قد احتوتا مع وجازتهما على حاصل أوصاف المنافقين التالية لآية { انفروا } المختتم ما هو العام منها في أهل الحاضرة في قوله { استأذنك أولوا الطول منهم } بـ { يفقهون } ثم عند إعادة ذكرهم بـ { لا يعلمون } وتصويب هاتين الآيتين إلى أهل الحاضرة ظاهر لكونهم ممن يحضر نزول الذكر كثيراً مع احتمالهما للعموم، والختم هنا بـ { لا يفقهون } أنسب لأن المقام - وهو النظر في زيادة الإيمان بالنسبة إليهم - يقتضي فكراً وتأملاً وإن كان بالنظر إلى المؤمنين في غاية الوضوح.

السابقالتالي
2 3 4 5