الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ ٱللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } * { وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوۤاْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ }

ولما كانت المشقة بالإنفاق العائد ضرره إلى المال، ووطئ مطلق الأرض الذي قد لا يلزم منه وصول إلى ما يغيظ العدو دون المشقة الحاصلة في النفس بالظمأ وما معه من فعل ما يغيظ العدو وينقصه، قدم ذلك على قوله: { ولا ينفقون } ولما كان القليل قد يحتقر، ابتدأ به ترغيباً في قوله: { نفقة صغيرة } ولما كان ربما تعنت متعنت فجعل ذكرها قيداً، قال: { ولا كبيرة } إعلاماً بأنه معتد به لئلا يترك، وفيه إشارة إلى آية اللمز للمطوعين في الصدقات { ولا يقطعون وادياً } أي من الأدوية بالسير في الجهاد، والوادي: كل منفرج بين جبال وآكام ينفذ فيه السيل، وهو في الأصل فاعل من ودى - إذا سال { إلا كتب لهم } أي ذلك الإنفاق والقطع، بناه للمفعول لأن القصد الحفظ بالكتابة مطلقاً { ليجزيهم الله } أي ذو الجلال والإكرام، أي بذلك من فضله { أحسن ما كانوا } أي جبلة وطبعاً { يعملون* } مضاعفاً على قدر الثبات، وأكدت فاصلة الأولى دون هذه لزيادة تلك في المشقة والنفع، ولذا صرح فيها الأجر والعمل الصالح - نبه على ذلك الإمام أبو حيان. ومن هنا بل من عند { إن الله اشترى } شرع في عطف الآخر على الأول الذي مضمونه البراءة من المشركين والاجتهاد في قتالهم بعد انقضاء مدتهم حيث وجدوا - إلى أن قال { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله } - إلى أن قال { ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض } ثم قال { انفروا خفافاً وثقالاً } ثم أتبع ذلك قصص المنافقين كما أنه فعل هنا كذلك أن ختم بقوله { قاتلوا الذين يلونكم من الكفار } الآية ثم أتبعها ذكر المنافقين.

ولما تواترت النواهي للمتخلفين وتواصلت الزواجر وتعاظم التبكيت والتهديد، طارت القلوب وأشفقت النفوس، فكان ذلك مظنة أن لا يتخلف بعدها أحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمن يقوم مقامه فيتمكن حينئذ الأعداء من الأموال والذراري والعيال، فأتبع ذلك قوله تعالى: { وما كان المؤمنون } أي الذين حثهم على النَّفر الرسوخ في الإيمان { لينفروا كآفة } أي جميعاً فإن ذلك بخل بكثير من الأغراض الصالحة، وهو تعليم لما هو الأنسب بالدين والدنيا من انقسام الناس قسمين: قسماً للجهاد، وقسماً للنفقة وحفظ الأموال والأولاد، كل ذلك بأمره عليه الصلاة والسلام والعمل بما يرضاه، ولا يخفى ذلك على المخلص، ولعل التعبير بالفعل الماضي في قوله مسبباً عما قبله: { فلولا نفر } ليفهم تبكيت من قصد تبكيته من المتخلفين في جميع هذه السورة بأنه كان عليهم أن ينفر مع النبي صلى الله عليه وسلم { من كل فرقة } أي ناس كثير يسهل افتراقهم، قالوا: وهو اسم يقع على ثلاثة { منهم طائفة } أي ناس لا ينفكون حافين بالنبي صلى الله عليه وسلم يلزمونه، قيل: والطائفة واحد واثنان، فالآية حجة على قبول خبر الواحد ووجوب العمل به، وكأنه عبر به للإشارة إلى الحث على كثرة النافرين كما هو أصل مدلولها الأغلب فيه { ليتفقهوا } أي ليكلف النافرون أنفسهم الفهم منه صلى الله عليه وسلم شيئاً فشيئاً { في الدين } أي بما يسمعونه من أقواله ويرونه من جميل أفعاله ويصل إلى قلوبهم من مستنير أحواله، وهذا غاية الشرف للعلم حيث جعل غاية الملازمة له صلى الله عليه وسلم للجهاد، هذا إن كان هو صلى الله عليه وسلم النافر في تلك الغزاة، وإن كان غيره كان ضمير { يتفقهوا } للباقين معه صلى الله عليه وسلم.

السابقالتالي
2