الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمِنَ ٱلأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ ٱللَّهِ وَصَلَوَاتِ ٱلرَّسُولِ أَلاۤ إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ ٱللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { وَٱلسَّابِقُونَ ٱلأَوَّلُونَ مِنَ ٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنْصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ }

ولما افتتح الآية الثانية بقوله: { ومن الأعراب من يؤمن } أي لا يزال يجدد إيمانه آثار الدين { بالله واليوم الآخر } علم أن القسم الأول غير مؤمن بذلك، وإنما وقع منهم الإقرار باللسان من غير إذعان، والإيمان هو الأصل الذي يترتب عليه الإنفاق عن طيب نفس لما يرجى من ثوابه في اليوم الآخر الذي لولا هو انتفت الحكمة من هذا الخلق على هذا الترتيب: ثم عطف عليه ما يثمره الإيمان فقال: { ويتخذ } أي يحث نفسه ويجاهدها إن عرضت له الوساوس الشيطانية على أن يعد { ما ينفق } أي فيما أمر الله به { قربات } جمع قربة لما تقرب إليه سبحانه { عند الله } أي الذي لا أشرف من القرب منه لأنه الملك الأعظم { وصلوات } أي دعوات { الرسول } أي الذي وظيفته التبليغ فهو لا يقول لهم شيئاً إلا عن الله، وأطلق القربة والصلاة على سببها.

ولما أخبر عن أفعالهم، أخبر عن عاقبتهم ومآلهم؛ قال مستأنفاً محققاً لرجائهم ترغيباً في الصدقة بأبلغ تأكيد لما لأعدائهم من التكذيب: { ألا إنها } أي نفقاتهم { قربة لهم } أي كما أرادوا؛ ثم بين ثمرة كونها قربة بقوله: { سيدخلهم الله } أي الذي له صفات الكمال بوعد لا خلف فيه { في رحمته } أي إكرامه فتكون محيطة بهم ثم علل ذلك بقوله معبراً بالاسم الأعظم تنبيهاً على أنه لا يسع الإنسان إلا العفو وإن أعظم الاجتهاد: { إن الله } أي الذي الذي لا يقدر أحد على أن يقدره حق قدره { غفور } أي بليغ الستر لقبائح من تاب { رحيم* } أي بليغ الإكرام، ذلك وصف له ثابت، يجلله كل من يستأهله.

ولما ذكر القسم الصالح منهم وكانوا متفاوتين فمنهم السابق وأكثرهم التابع اللاحق، أتبعه السابقين على وجه شامل حاصر لصنفي البادي والحاضر إشارة إلى أنه - وإن أجره - أصله فقد قدمه وصفه بحيث ساوى أهل الكمال في مطلق الانخراط في ملكهم والفوز بدرجتهم لإحسانه في اتباعهم ترغيباً لأهل القدرة والرحمة في اتباع أهل الرضوان والنعمة فقال: { والسابقون } ولما دل على سبقهم بالعلو في مراتبه دل على قديم دخولهم فيه فقال: { الأولون } أي إلى هذا الدين القيم { من المهاجرين } أي لدار الكفر فضلاً عن أهلها { والأنصار } أي الذين آووا ونصروا { والذين اتبعوهم } أي الفريقين { بإحسان } أي في اتباعهم فلم يحولوا عن شيء من طريقهم { رضي الله } أي الذي له الكمال كله { عنهم } أي بأفعالهم هذه التي هي وفق ما أمر به { ورضوا عنه } أي بما أتاهم عنه من البشرى وقذف في قلوبهم من النور بلطيف الوعظ والذكرى { وأعد لهم } أي جزاء على فعلهم { جنات تجري } ونبه على عموم ريّها وكثرة مائها بنزع الجار على قراءة الجماعة فقال: { تحتها الأنهار } أي هي كثيرة المياه. فكل موضع أردته نبع منه ماء فجرى منه نهر؛ ولما كان المقصود من الماء إنما هو السهولة في إنباطه بقربه ويسر جريه وانبساطه أثبته ابن كثير دلالة على ذلك كسائر المواضع، ولعل تخصيص هذا الموضع بالخلاف لأنه يخص هذه الأمة، فلعلها تخص بجنة هي أعظم الجنان رياً وحسناً وزياً.

ولما كان أعظم العيوب الانقطاع، نفاه بقوله: { خالدين فيها } وأكد المراد من الخلود بقوله: { أبداً } ثم استأنف مدح هذا الذي أعده لهم بقوله: { ذلك } أي الأمر العالي المكانة خاصة { الفوز العظيم* }.