الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ وَيَتَجَنَّبُهَا ٱلأَشْقَى } * { ٱلَّذِى يَصْلَى ٱلنَّارَ ٱلْكُبْرَىٰ } * { ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا } * { قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ } * { وَذَكَرَ ٱسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ } * { بَلْ تُؤْثِرُونَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا } * { وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ } * { إِنَّ هَـٰذَا لَفِي ٱلصُّحُفِ ٱلأُولَىٰ } * { صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ }

ولما ذكر من يحب حبه في الله ذكر من يبغض في الله، وعلامة الحب الاقتداء، وعلامة البغض التجنب والانتهاء والابتداع والإباء، فقال: { ويتجنبها } أي يكلف نفسه وفطرته الأولى المستقيمة تجنب الذكرى التي نشاء تذكيره بها من أشرف الخلائق وأعظمهم وصلة بالخالق. ولما كان هذا الذي يعالج نفسه على العوج شديد العتو قال: { الأشقى * } أي الذي له هذا الوصف على الإطلاق لأنه خالف أشرف الرسل فهو لا يخشى فكان أشقى الناس، كما أن من آمن به أشرف ممن آمن بمن قبله من الرسل عليهم الصلاة والسلام.

ولما ذكر وصفه الذي أوجب له العمل السيىء، ذكر جزاءه فقال: { الذي يصلى } أي يباشر مباشرة الغموس بقلبه وقالبه مقاسياً { النار الكبرى * } أي التي هي أعظم الطبقات وهي السفلى لأنه ليس في طبعه أن يخشى، بل هو كالجلمود الأقسى لأنه جاهل مقلد أو متكبر معاند، أو المراد نار الأخرى فإنها أعظم من نار البرزخ وأعظم من نار الدنيا بسبعين جزءاً، فلهذا استحقت أن تتصف بأفعل التفضيل على الإطلاق، والآية من الاحتباك: ذكر الثمرة في الأول وهي الخشية دليلاً على حذف ضدها من الثاني، وهي القسوة الناشئة على الحكم بالشقاوة، وذكر الأصل والسبب في الثاني وهو الشقاوة دليلاً على حذف ضده في الأول وهو السعادة، فالإسعاد سبب والخشية ثمرة، والإشقاء سبب والقساوة ثمرة ومسبب، وكذا ما نبعه من النار وما نشأ عنه، وسر ذلك أنه ذكر مبدأ السعادة أولاً حثاً عليه، ومآل الشقاوة ثانياً تحذيراً منه، قال الملوي: ولا شك أن القرآن العظيم على أحسن ما يكون من البراعة في التركيب وبداعة الترتيب وكثرة العلوم مع الاختصار وعدم التكرار، فيكتفي في موضع بالثمرة بلا سبب وفي آخر بالسبب بلا ثمرة لدلالة الأول على الثاني والثاني على الأول، فيضم السبب إلى الثمرة والثمرة إلى السبب كما يطلق القضاء ويكتفى به عن القدر، ويطلق القدر ويكتفى به عن القضاء، وكذلك يذكر الحكم ويتركان فيدل عليهما فتذكر الثلاثة، ويظهر بمثال وهو أن من أراد إقامة دولاب يهندس أولاً موضع البئر بسهمه وترسه ومداره وحوضه الذي يصب فيه المار وجداوله التي ينساق منها، فهذا هندسة وتدبير وحكم وإرادة، فإذا صنع ذلك وأتمه سمي قضاء وإيجاداً وتأثيراً، فإذا ركب على الجبال قواديس تحمل مقداراً من الماء معيناً إذا نزلت إلى الماء أخذته، وإذا صعدت فانتهت وأرادت الهبوط فرغته فتصرف الماء من جداوله إلى ما صنع له كان ذلك قدراً فهو النهاية، فمتى ذكر واحد من الثلاثة: الحكم والقضاء والقدر، دل على الآخر.

ولما كان ما هذا شأنه يهلك على ما جرت به العادة في أسرع وقت، فإذا كان من شأنه مع هذا العظم أنه لا يهلك كان ذلك دليلاً واضحاً على أنه لا يعلم كنه عظمة مقدره إلا هو سبحانه وتعالى فأشار إلى ذلك بالتعبير بأداة التراخي إعلاماً بأن مراتب هذه الشدة في التردد بين الموت والحياة لا يعلم علوها عن شدة الصلى إلا الله تعالى فقال: { ثم لا يموت فيها } أي لا يتجدد له في هذه النار موت وإن طال المدى.

السابقالتالي
2 3 4