الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ يَوْمَ تُبْلَىٰ ٱلسَّرَآئِرُ } * { فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ } * { وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلرَّجْعِ } * { وَٱلأَرْضِ ذَاتِ ٱلصَّدْعِ } * { إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ } * { وَمَا هوَ بِٱلْهَزْلِ } * { إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً } * { وَأَكِيدُ كَيْداً } * { فَمَهِّلِ ٱلْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً }

ولما كان هذا يحرك السامع غاية التحريك لأن يقول: معتى تكون رجعه له؟ قال مجيباً له: { يوم تبلى } وبناه للمفعول إشارة مع التنبيه على السهولة إلى أن من الأمر البين غاية البيان أن الذي يبلوها هو الذي يرجعها، وهو الله سبحانه وتعالى من غير احتياج إلى ذكره { السرائر * } أي كل ما انطوت عليه الصدور من العقائد والنيات، وأخفته الجوارح من الإخلال بالوضوء والغسل ونحو ذلك من جميع الجنايات، بأن تخالط السرائر في ذلك اليوم، وهو يوم القيامة، من الأمور الهائلة ما يميلها فيحيلها عما هي عليه فتعود جهراً بعد أن كانت سراً، فيميز طيبها من خبيثها ويجازى عليه صاحبه.

ولما كان المانع من جزائه عند إظهار سرائره إما هو نفسه أو أحد ينصره، قال مسبباً عن إظهار ما يجتهد في إخفائه: { فما له } أي الإنسان الذي أخرجت سرائره، وأعرق في التعميم والنفي فقال: { من قوة } أي يمنع بها نفسه من الجزاء { ولا ناصر * } أي ينصره فيمنعه من نفوذ الحكم فيه. وليس الدفع إلا بهذين الأمرين: قوة قائمة به أو قوة خارجة عنه.

ولما اشتملت هذه الجمل على وجازتها على الذروة العليا من البلاغة في إثبات البعث والجزاء والوحدانية له سبحانه وتعالى إلى غير ذلك من بحور العلوم، فثبت أن القرآن كلام الله سبحانه وتعالى، فثبت أن كل ما فيه حق مع منازعتهم في ذلك كله، اقتضى الحال الإقسام على حقيته فقال: { والسماء } أي التي كان المطلع الإقسام بها ووصفها بما يؤكد العلم بالعبث الذي الذي هو منبع العلوم والتقوى فعليه مدار السعادة فقال: { ذات الرجع * } التي ترجع بالدوران إلى الموضع الذي ابتدأت الدوران منه فترجع الأحوال التي كانت وتصرمت من الليل والنهار والشمس والقمر والكواكب والفصول من الشتاء وما فيه من برد ومطر، والصيف وما فيه من حر وصفاء وسكون وغير ذلك والنبات بعد تهشمه وصيرورته تراباً مختلطاً بتراب الأرض وترجع الماء على قول من يقول: إن السحاب يأخذه من البحر ويعلو به فيعصره في الهواء ثم يرده إلى الأرض - وغير ذلك من الأمور الدال كل منها قطعاً على أن فاعل ذلك قادر على إعادة كل ما فني كما كان من غير فرق أصلاً.

ولما ذكر الأمر العلوي بادئاً به لشرفه، أتبعه السفلي فقال تعالى: { والأرض } أي مسكنكم الذي أنتم ملابسوه ومعانوه كل وقت وملامسوه { ذات الصدع * } أي التي تتصدع وتنشق فيخرج منها النبات والعيون بدءاً وإعادة دلالة ظاهرة على البعث، فجمع بالقسم العالم العلوي الذي هو كالرجل والسفلي الذي هو كالمرأة، فكما أن الرجل يسقيها من مائه فتصدع عن الولد، فكذلك السماء تسقي الأرض فتتصدع عن النبات وكما أنها تتصدع عن النبات بعد فنائه وصيرورته رفاتاً فيعود كما كان فكذلك تتصدع عن الناس بعد فنائهم فيعودون كما كانوا بإذن ربها من غير فرق أصلاً.

السابقالتالي
2 3