الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ ٱلنَّعِيمِ } * { يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ } * { خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ ٱلْمُتَنَافِسُونَ } * { وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ } * { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا ٱلْمُقَرَّبُونَ } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ } * { وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ }

ولما وصف نعيمهم، أخبر أنهم من عراقتهم فيه يعرفهم به كل ناظر إليهم فقال تعالى: { تعرف } أي أيها الناظر إليهم - هذا على قراءة الجماعة، وقرأ أبو جعفر ويعقوب بالبناء للمفعول، وهو أدل على العموم { في وجوههم } عند رؤيتهم { نضرة النعيم * } أي بهجته ورونقه وحسنه وبريقه وطراوته، من نضر النبات - إذا أزهر ونوّر، وقال الحسن رحمه الله تعالى: النضرة في الوجه والسرور في القلب.

ولما كانت مجالس الأنس لا سيما في الأماكن النضرة لا تطيب إلا بالمآكل والمشارب، وكان الشراب يدل على الأكل، قال مقتصراً عليه لأن هذه السور قصار يقصد فيها الجمع مع الاختصار قال: { يسقون } بانياً له للمفعول دلالة على أنهم مخدومون أبداً لا كلفة عليهم في شيء { من رحيق } أي شراب خالص صاف عتيق أبيض مطيب في غاية اللذة، فإنهم قالوا: إن الرحيق الخمر أو أطيبها أو أفضلها أو الخالص أو الصافي، وضرب من الطيب. ولا شك أن العاقل لا يشرب الخمر مطلقاً فكيف بأعلاها إلا إذا كان مستكملاً لمقدماتها من مأكول ومشروب وملبوس ومنكوح وغير ذلك، ولما كان الختم لا يكون إلا لما عظمت رتبته وعزت نفاسته، قال مريداً الحقيقة، أو الكناية عن نفاسته: { مختوم * } أي فهو مع نفاسته سالم من الغبار وجميع الأقذاء والأقذار.

ولما كان الختم حين الفك لا بد أن ينزل من فتاته في الشراب قال: { ختامه مسك } وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إن المراد بختامه آخر طعمه، فيحصل أن ختامه في أول فتحه وفي آخر شربه المسك، وذلك يقتضي أن لا يكون يفتحه إلا شاربه، وأنه يكون على قدر كفايته فيشربه كله، والعبارة صالحة لأن يكون الختام أولاً وآخراً، وهو يجري مجرى افتضاض البكر. ولما كان التقدير: فيه يبلغ نهاية اللذة الشاربون، عطف عليه قوله: { وفي ذلك } أي الأمر العظيم البعيد المتناول وهو العيش والنعيم والشراب الذي هذا وصفه { فليتنافس } أي فليرغب غاية الرغبة بجميع الجهد والاختيار { المتنافسون * } أي الذين من شأنهم المنافسة وهو أن يطلب كل منهم أن يكون ذلك المتنافس فيه لنفسه خاصة دون غيره لأنه نفيس جداً، والنفيس هو الذي تحرص عليه نفوس الناس وتتغالى فيه. والمنافسة في مثل هذا بكثرة الأعمال الصالحات والنيات الخالصة.

ولما ذكر الشراب، أتبعه مزاجه على ما يتعارفه أهل الدنيا لكن بما هو أشرف منه، فقال مبيناً لحال هذا المسقي: { ومزاجه } أي يسقون منه والحال أن مزاج هذا الرحيق { من تسنيم * } علم على عين معينة وهو - مع كونه علماً - دال على أنها عالية المحل والرتبة، والشراب ينزل عليهم ماؤها من العلو -، وقال حمزة الكرماني: ماؤها يجري على الهواء متنسماً ينصب في أواني أهل الجنة على مقدار الحاجة، فإذا امتلأت أمسك، وهو في الشعر اسم جبل عال وكذا التنعيم وأصله من السنام، ولذلك قطعها مادحاً فقال: { عيناً يشرب بها } أي بسببها على طريقة المزاج منها { المقربون * } أي الذين وقع تقريبهم من اجتذاب الحق لهم إليه وقصر هممهم عليه، كل شراب يريدونه، وأما الأبرار فلا يشربون بها إلا الرحيق، وأما غيرهم فلا يصل إليها أصلاً، وقال بعضهم: إن المقربين يشربون من هذه العين صرفاً، والأبرار يمزج لهم منها والفرق ظاهر - هنياً لهم.

السابقالتالي
2