الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ يَوْمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } * { كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ ٱلْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ } * { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ } * { كِتَابٌ مَّرْقُومٌ } * { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } * { ٱلَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ } * { وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ }

ولما عظم ذلك اليوم تحذيراً منه، وزاده تعظيماً بأن أتبعه على سبيل القطع قوله ناصباً بتقدير " أعني " إعلاماً بأن الجحد فيه بأعين جميع الخلائق فهو فضيحة لا يشبهها فضيحة: { يوم يقوم } أي على الأرجل { الناس } أي كل من فيه قابلية الحركة، وذلك يوم القيامة خمسين ألف سنة لا ينظر إليهم سبحانه - رواه الطبراني في الكبير عن عبد الله بن عمرو رفعه ورجاله ثقات { لرب العالمين * } أي لأجل حكم موجد الخلائق ومربيهم كلهم فلا ينسى أحداً من رزقه ولا يهمله من حكمه ولا يرضى بظلم أحد ممن يربيه فهو يفيض لكل من كل بحكم التربية، كل ذلك من استفهام الإنكار وكله الظن، ووصف اليوم بما وصف وغير ذلك للإبلاغ في المنع عن التطفيف وتعظيم إثمه، وروى الحاكم من رواية عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه رفعه: " ما نقض قوم العهد إلا سلط عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله تعالى إلا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر " ومن طريق عطاء بن أبي رباح عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً نحوه، وللطبراني من طريق الضحاك عن مجاهد وطاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً نحوه.

ولما أنهى سبحانه ما أراد من تعظيم ذلك اليوم والتعجيب ممن لم يفده براهينه أن يجوزه والإنكار عليه، وكان مع ما فيه من التقريع مفهماً للتقرير، نفى بأداة الردع للمبالغة في النفي مضمون ما وقع الاستفهام عنه فقال: { كلا } أي لا يظن أولئك ذلك بوجه من الوجوه لكثافة طباعهم ووقوفهم مع المحسوس دأب البهائم بل لا يجوزونه، ولو جوزوه لما وقعوا في ظلم أحد من يسألون عنه في ذلك اليوم المهول، وما أوجب لهم الوقوع في الجرائم إلا الإعراض عنه، وقال الحسن رحمه الله تعالى: هي بمعنى حقاً متصلة بما بعدها - انتهى. وهي مع ذلك مفهمة للردع الذي ليس بعده ردع عن اعتقاد مثل ذلك والموافقة لشيء مما يوجب الخزي فيه.

ولما أخبر عن إنكارهم، استأنف إثبات ما أنكروه على أبلغ وجه وأفظعه مهولاً لما يقع لهم من الشرور وفوات السرور، مؤكداً لأجل إنكارهم فقال: { إن كتاب } وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال: { الفجار } أي صحيفة حساب هؤلاء الذين حملهم على كفرهم مروقهم وكذا كل من وافقهم في صفاتهم فكان في غاية المروق مما حق ملابسته وملازمته، وأبلغ في التأكيد فقال: { لفي سجين * } هو علم منقول في صيغة المبالغة عن وصف من السجن وهو الحبس لأنه سبب الحبس في جهنم أي إنه ليس فيه أهلية الصعود إلى محل الأقداس إشارة إلى أن كتابهم إذا كان في سجن عظيم أي ضيق شديد كانوا هم في أعظم، قال ابن جرير: وهي الأرض السابعة - انتهى وهو يفهم مع هذه الحقيقة أنهم في غاية الخسارة لأنه يقال لكل من انحط: صار تراباً ولصق بالأرض - ونحو ذلك، ثم زاد في هوله بالإخبار بأنه أهل لأن يسأل عنه ويضرب إلى العالم به - إن كان يمكن - آباط الإبل فقال: { وما أدراك } أي جعلك دارياً وإن اجتهدت في ذلك { ما سجين * } أي أنه بحيث لا تحتمل وصفه العقول، وهو مع ذلك في أسفل سافلين ويشهده المبعدون من الشياطين وسائر الظالمين، يصعد بالميت منهم إلى السماء فتغلق أبوابها دونه فيرد تهوي به الريح تشمت به الشياطين.

السابقالتالي
2