الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُوۤاْ أُوْلَـٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ وَإِنِ ٱسْتَنصَرُوكُمْ فِي ٱلدِّينِ فَعَلَيْكُمُ ٱلنَّصْرُ إِلاَّ عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } * { وَٱلَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي ٱلأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ }

ولما بين للأسرى أن الخير الذي لم يطلع عليه من قلوبهم غير الله لا ينفعهم في إسقاط الفداء عنهم لأنه لا دليل عليه، وكل ما لا دليل عليه فحكمه حكم العدم، لأن مبنى الشرع على ما يمكن المكلف معرفته وهو الظواهر، وختم بصفتي العلم والحكمة، شرع يبين الخبر الذي يفيد القرب الذي تنبني عليه المناصرة وكل خير، فقال مقسماً أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أقسام: قسم جمع الإيمان والهجرة أولاً والجهاد، وقسم آوى، وقسم آمن ولم يهاجر، وقسم هاجر من بعد: { إن الذين آمنوا } أي بالله ورسوله { وهاجروا } أي واقعوا الهجرة من بلاد الشرك، وهم المهاجرون الأولون، هجروا أوطانهم وعشائرهم وأحبابهم حباً لله ورسوله صلى الله عليه وسلم { وجاهدوا } أي واقعوا الجهاد، وهو بذل الجهد في توهين الكفر وأهله.

ولما كانت الآيات المتقدمه في آلات الجهاد من النفس والمال تارة بالحث على إنفاقه وأخرى بالنهي عن حبه وتارة بالتسلية للأسرى عند فقده، كان الأنسب تقديم قوله: { بأموالهم } أي بإنفاقهم لها في الجهاد وتضييع بعضها بالهجرة من الديار والنخيل وغيرها { وأنفسهم } بإقدامهم على القتال مع شدة الأعداء وكثرتهم؛ وقدم المال لأنه سبب قيام النفس، وكان في غاية العزة في أول الأمر، وأخر قوله: { في سبيل الله } أي الملك الأعظم لذلك، " وفي " سببية أي جاهدوا بسببه حتى لا يصد عنه صاد فتظهر محاسنه ويسهل المرور فيه من غير قاطع، ولعله عبر بـ " في " إعلاماً بأنه ينبغي أن يكون متمكناً من السبيل تمكن المظروف من ظرفه حتى يكون الدين غالباً عليه لا يخرج عنه بوجه من الوجوه، وأما في سورة براءة فلما كان السياق في بعض الأماكن بها للسبيل قدم - كما سيأتي، وأيضاً فإن هذه السورة نزلت في أوائل الأمر بعد وقعه بدر في السنة الثانية من الهجرة، وكان الحال إذ ذاك شديداً جداً، والأموال في غاية القلة، والأعداء لا يحصون، فناسب الاهتمام بشأن المال والنفس فقدما ترغيباً في بذلهما، وأما براءة فنزلت في غزوة تبوك في أواخر سنة تسع، فكان المال قد اتسع، والدين قد عز وضخم وقوي وعظم، وأسلم غالب الناس، فبعدت مواضع الجهاد فعظمت المشقة، وتواكل الناس بعضهم على بعض ورغبوا في الإقبال على إصلاح الأموال، فناسب البداءة هناك بالسبيل.

ولما ذكر أهل الهجرة الأولى، أتبعهم أهل النصرة، وهم القسم الثاني من المؤمنين الذين كانوا على زمنه صلى الله عليه وسلم فقال: { والذين آووا } أي من هاجر إليهم من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم فأسكنوهم في ديارهم، وقسموا لهم من أموالهم، وعرضوا عليهم أن ينزلوا لهم عن بعض نسائهم ليتزوجوهن، وأنما قصر الفعل إشارة إلى تعظيم فعلهم بحيث كأنه لا إيواء في الوجود غير ما فعلوا، وكذا قوله: { ونصروا } أي الله ورسوله والمؤمنين، وهم الأنصار رضي الله عنهم، حازوا هذين الوصفين الشريفين فكانوا في الذروة من كلتي الحسنيين، ولولا إيواؤهم ونصرهم لما تم المقصود، والمهاجرون الأولون أعلى منهم لسبقهم في الإيمان الذي هو رئيس الفضائل ولحملهم الأذى من الكفار زماناً طويلاً وصبرهم على فرقة الأوطان والعشائر.

السابقالتالي
2 3 4 5