الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلاَ وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً } * { إِنَّ ٱلأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً } * { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً } * { يُوفُونَ بِٱلنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً } * { وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً } * { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً }

ولما قسمهم إلى القسمين، ذكر جزاء كل قسم فقال مستأنفاً جواب من يسأل عن ذلك مبشراً للشاكر الذي استعد بعروجه في مراقي العبادات إلى ملكوت العلويات لروح وريحان وجنة نعيم، ومنذراً للكافر الذي استعد بالهبوط في دركات المخالفات إلى التقيد بالسفليات لنزل من حميم وتصلية جحيم، مقدماً للعاصي لأن طريق النشر المشوش أفصح، وليعادل البداءة بالشاكر في أصل التقسيم ليتعادل الخوف والرجاء، وليكون الشاكر أولاً وآخراً، ولأن الانقياد بالوعيد أتم لأنه أدل على القدرة لا سيما في حق أهل الجاهلية الذين بعدت عنهم معرفة التكاليف الشرعية، وأكثر في القرآن العظيم من الدعاء بالترغيب والترهيب لأنه الذي يفهمه الجهال الذين هم أغلب الناس دون الحجج والبراهين، فإنها لا يفهمها إلا الخواص، وأكد لأجل تكذيب الكفار: { إنا } أي على ما لنا من العظمة { أعتدنا } أي هيأنا وأحضرنا بشدة وغلظة { للكافرين } أي العريقين في الكفر خاصة، وقدم الأسهل في العذاب فالأسهل ترقياً فقال: { سلاسلاً } يقادون ويرتقون بها، وقراءة من نوّن مشيرة إلى أنها عظيمة جداً، وكذا وقف أبي عمرو عليه بالألف مع المنع من الصرف { وأغلالاً } أي جوامع تجمع أيديهم إلى أعناقهم فيها فيهانون بها { وسعيراً * } أي ناراً حامية جداً شديدة الاتقاد.

ولما أوجز في جزاء الكافر، أتبعه جزاء الشاكر وأطنب فيه تأكيداً للترغيب، فإن النفوس بعد كسر الوعيد لها تهتز لأدنى وعد وأقله فكيف بأتمه وأجله، فقال مستأنفاً مؤكداً لتكذيب الكافر مبيناً بذكر الخمر على هذه الصفة أنهم في أنهى ما يكون من رغد العيش لأنه يلزم من شربها جميع مقدماتها ومتمماتها: { إن الأبرار } بخصوصهم من عموم الشاكرين جمع بر كأرباب جمع رب، أو بار كأشهاد جمع شاهد، وهم الذين سمت هممهم عن المستحقرات فظهرت في قلوبهم ينابيع الحكمة فأنفقوا من مساكنة الدنيا { يشربون } أي ما يريدون شربه { من كأس } أي خمر - قاله الحسن وهو اسم لقدح تكون فيه { كان مزاجها } أي الذي تمزج به { كافوراً * } أي لبرده وعذوبته وطيب عرفه، وذكر فعل الكون يدل على أن له شأناً في المزج عظيماً يكون فيه كأنه من نفس الجبلة لا كما يعهد.

ولما كان الكافور أعلى ما نعهده جامداً، بين أنه هناك ليس كذلك، فقال مبدلاً من " كافور ": { عيناً يشرب بها } أي بمزاجها كما تقول: شربت الماء بالعسل { عباد الله } أي خواص الملك الأعظم وأولياؤه أي شراب أرادوه.

ولما كان المزاج يتكلف لنقله قال: { يفجرونها تفجيراً * } أي حال كونهم يشققونها ويجرونها بغاية الكثرة إجراء حيث أرادوا من مساكنهم وإن علت وغيرها.

ولما ذكر جزاءهم على برهم المبين لشكرهم، أتبعه تفصيله فقال مستأنفاً بياناً لأن شكرهم بالتعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله وعمارة الظاهر والباطن لأنهم جمعوا بين كرم الطبع ولطافة المزاج الحامل على تجويز الممكن المقتضي للإيمان بالغيب: { يوفون } أي على سبيل الاستمرار { بالنذر } وهذا كناية عن وفائهم بجميع أنحاء العبادة لأن من وفى بما أوجبه على نفسه كان بما أوجبه الله من غير واسطة أوفى، ويجوز أن يكون النذر كل ما تقدم إليهم فيه سبحانه.

السابقالتالي
2 3