الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً } * { إِنَّ هَـٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً } * { وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } * { يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ وَٱلظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً }

ولما كان تركهم لليوم الثقيل على وجه التكذيب الذي هو أقبح الترك، وكان تكذيبهم لاعتقادهم عدم القدرة عليه قال دالاً على الإعادة بالابتداء من باب الأولى: { نحن خلقناهم } ، بما لنا من العظمة لا غيرنا { وشددنا أسرهم } أي قوينا وأتقنا ربط مفاصلهم الظاهرة والباطنة بالأعصاب على وجه الإحكام بعد كونهم نطفة أمشاجاً في غاية الضعف، وأصل الأسر، القد يشد به الأقتاب أو الربط والتوثيق، ولا شك أن من قدر على إنشاء شخص من نطفة قادر على أن يعيده كما كان لأن جسده الذي أنشأه إن كان محفوظاً فالأمر فيه واضح، وإن كان قد صار تراباً فإبداعه منه مثل إبداعه من النطفة، وأكثر ما فيه أن يكون كأبيه آدم عليه السلام بل هو أولى فإنه ترابه له أصل في الحياة بما كان حياً، وتراب آدم عليه السلام لم يكن له أصل قط في الحياة والإعادة أهون في مجاري عادات الخلق من الابتداء، ولذلك قال معبراً بأداة التحقق: { وإذا شئنا } أي بما لنا من العظمة أن نبدل ما نشاء من صفاتهم أو ذواتهم { بدلنا أمثالهم } أي بعد الموت في الخلقة وشدة الأسر { تبديلاً * } أو المعنى: جئنا بأمثالهم بدلاً منهم وخلائف لهم، أو يكون المراد - وهو أقعد - بالمثل الشخص أي بدلنا أشخاصهم لتصير بعد القوة إلى ضعف وبعد الطول إلى قصر وبعد البياض إلى سواد وغير ذلك من الصفات كما شوهد في بعض الأوقات في المسخ وغيره، وكل ذلك دال على تمام قدرتنا وشمول علمنا.

ولما كان هذا دليلاً عظيماً على القدرة على البعث مخزياً لهم، قال مؤكداً لإنكارهم عناداً: { إن هذه } أي الفعلة البدائية، أو المواعظ التي ذكرناها في هذه السورة وفي جميع القرآن { تذكرة } أي موضع ذكر عظيم للقدرة على البعث وتذكر عظيم لما فعلت في الإنشاء أولاً، وموعظة عظيمة فإن في تصفحها تنبيهات عظيمة للغافلين، وفي تدبرها وتذكرها فوائد جمة للطالبين السالكين ممن ألقى سمعه وأحضر نفسه، وكانت نفسه مقبلة على ما ألقى إليه سمعه، فمن أقبل هذا الإقبال علم أنا آتيناه من الآلات والدلائل ما إن سلك معه مجتهداً وصل دون ضلال ولذلك سبب عن كونها تذكرة قوله من خطاب البسط: { فمن شاء } أي أن يجتهد في وصوله إلى الله سبحانه وتعالى { اتخذ } أي أخذ بجهده من مجاهدة نفسه ومغالبة هواه { إلى ربه } أي المحسن إليه الذي ينبغي له أن يحبه بجميع قلبه ويجتهد في القرب منه { سبيلاً * } أي طريقاً واسعاً واضحاً سهلاً بأفعال الطاعة التي أمر بها لأنا بينا الأمور غاية البيان وكشفنا اللبس وأزلنا جميع موانع أنفسهم عمن شئنا وركزنا ذلك في الطباع، ولم يبق مانع من استطراق أصلاً غير مشيئتنا، والفطرة الأولى أعدل شاهد بهذا.

السابقالتالي
2