الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ } * { قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ ٱلْمُصَلِّينَ } * { وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ ٱلْمِسْكِينَ } * { وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ ٱلُخَآئِضِينَ } * { وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ } * { حَتَّىٰ أَتَانَا ٱلْيَقِينُ } * { فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ ٱلشَّافِعِينَ } * { فَمَا لَهُمْ عَنِ ٱلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } * { كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ }

ولما كان يوم القيامة في غاية الصعوبة وكان أحد مشغولاً بنفسه، فكان لا علم له بتفاصيل ما يتفق لغيره، وكان أولياء الله إذا دخلوا دار كرامته أرادوا العلم بما فعل بأعدائهم فيه سبحانه، فتساءلوا عن حالهم فقال بعضهم لبعض: لا علم لنا، فكشف الله - لهم عنهم حتى رأوهم في النار وهي تسعر بهم ليقر الله أعينهم بعذابهم، زيادة في نعيمهم وثوابهم، كما تقدم في الصافات عند قولهقال قائل منهم إني كان لي قرين } [الصافات: 51] وكان بساط - الكلام دالاً على هذا كله، أشار لنا سبحانه إليه بقوله حكاية عما يقول لهم أولياؤهم توبيخاً وتعنيفاً وشماتة وتقريعاً تصديقاً لقوله تعالىفاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون } [المطففين: 34] الآية، ولتكون حكاية ذلك موعظة للسامعين وذكرى للذاكرين: { ما } هي محتملة للتوبيخ والتعجيب { سلككم } أي أدخلكم أيها المجرمون إدخالاً هو في غاية الضيق حتى كأنكم السلك في الثقب { في سقر * } فكان هذا الخطاب مفهماً لأنهم لما تساءلوا نفوا العلم عن أنفسهم، وكان من المعلوم أن نفي العلم لأنهم شغلوا عن ذلك بأنفسهم وأنهم ما شغلوا - مع كونهم من أهل السعادة - إلا لأن ذلك اليوم عظيم الشواغل، وكان من المعلوم أنه إذا تعذر عليهم علم أحوالهم من أهل الجنة وهم غير مريدين الشفاعة فيهم فلم يبق لهم طريق إلى علم ذلك لا يظن به التعريض للشفاعة إلا السؤال منهم عن أنفسهم في أنهم يخاطبونهم بذلك فيعلمون علمهم ليزدادوا بذلك غبطة وسروراً بما نجاهم الله من مثل حالهم ويكثروا من الثناء على الله تعالى بما وفقهم له وليكون ذلك عظة لنا بسماعنا إياه فحكى الله أنهم لما سألوهم { قالوا } ذاكرين علة دخولهم النار بإفساد قوتهم العملية في التعظيم لأمر الله فذلكة لجميع ما تقدم من مهمات السورة بما حاصله أنهم لم يتحلوا بفضيلتين ولم يتخلوا عن رذيلتن تعريفاً بأنهم كانوا مخاطبين بفروع الشريعة، وفي البداءة بالعمل تنبيه على أنه يجب على العاقل المبادرة إلى ما يأمره به الصادق لأنه المصدق لحسن الاعتقاد، والمبادرة إلى التلبس بالعمل أسهل من المبادرة إلى التلبس بالعلم، لأن العمل له صورة وحقيقة، ومطلق التصوير أسهل من التحقيق، ومن صور شيئاً كان أقرب إلى تحقيقه ممن لم يصوره، فكان أجدر بتحقيقه ممن لم يباشر تصويره، ففيه حث على المسابقة إلى الأعمال الصالحة وإن لم تكن النية خالصة، وإيذان بأن من أدمن ترك الأعمال قاده إلى الانسلاخ من حسن الاعتقاد، وورطه في الضلال، { لم نك } حذفوا النون دلالة على ما هم فيه من الضيق عن النطق حتى بحرف يمكن الاغتناء عنه، ودلالة على أنه لم يكن لهم نوع طبع جيد يحثهم على الكون في عداد الصالحين، وكان ذلك مشيراً إلى عظيم ما هم فيه من الدواهي الشاغلة بضد ما فيه أهل الجنة من الفراغ الحامل لهم على السؤال عن أحوال غيرهم، وكان ذلك منبهاً على فضيلة العلم: { من المصلين * } أي صلاة يعتد بها، فكان هذا تنبيهاً على أن رسوخ القدم في الصلاة مانع من مثل حالهم، وعلى أنهم يعاقبون على فروع الشريعة وإن كانت لا تصح منهم، فلو فعلوها قبل الإيمان لم يعتد بها، وعلى أن الصلاة أعظم الأعمال، وأن الحساب بها يقدم على غيرها.

السابقالتالي
2