الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ } * { قُمِ ٱلَّيلَ إِلاَّ قَلِيلاً } * { نِّصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً } * { أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ ٱلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً } * { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً }

لما تقدم في آخر الجن من تعظيم الوحي وأن من تعظيمه حفظ المرسل به من جميع الآفات المفترة عن إبلاغه بما له سبحانه من إحاطة العلم والقدرة وندب نبيه الذي ارتقاه لرسالته والاطلاع على ما أراده من غيبه صلى الله عليه وسلم أول هذه إلى القيام بأعباء النبوة بالمناجاة بهذا الوحي في وقت الأنس والخلوة بالأحباب، والبسط والجلوة لمن دق الباب، للاعتلاء والمتاب، المهيىء لحمل أعباء الرسالة، والمقوي على أثقال المعالجة لأهل الضلالة، فقال معبراً بالأداة الصالحة للقرب والبعد المختصة بأنه لا يقال بعدها إلا الأمور التي هي في غاية العظمة، أشار إلى أنه صلى الله عليه وسلم يراد به غاية القرب بالأمور البعيدة عن تناول الخلق بكونها خوارق للعادات ونواقض للمألوفات المطردات، وأما التزمل فهو وإن كان من آلات ذلك إلا أنه من الأمور العادية، فهو دون ما يراد من التهيئة لذلك الاستعداد، وبالتزمل لكونه منافياً للقيام في الصلاة: { يا أيها المزمل * } أي الذي أخفى شخصه وستر أمره وما أمرناه به - بما أشار إليه التزمل الذي مدلوله التلفف في الثوب على جميع البدن والاختفاء ولزوم مكان واحد، ولأنه يكون منطرحاً على الأرض كما قال صلى الله عليه وسلم في قتلى أحد - " زملوهم بثيابهم ودمائهم " مع الإشارة إلى الإخفاء أيضاً بإدغام تاء التفعل، وربما أشار الإدغام إلى أن الستر بالثوب لم يعم جميع البدن، كما يأتي في المدثر على أن فيه مع ذلك إشارة إلى البشارة بالقوة على حمل أعباء ما يراد به، من قولهم: زمل الشيء - إذا رفعه وحمله، والازدمال: احتمال الشيء، وزملت الرجل على البعير وغيره - إذا حملته عليه، ومن زملت الدابة في عدوها - إذا نشطت، والزامل من حمر الوحش الذي كأنه يظلع من نشاطه، ورجل إزميل: شديد، والزاملة: بعير يستظهر به الرجل لحمل طعامه ومتاعه عليه، ويقال للرجل العالم بالأمر: هو ابن زوملتها، وقال ابن عطاء: يا أيها المخفي ما تظهره عليه من آثار الخصوصية! هذا أوان كشفه، وقال عكرمة: يا أيها الذي حمل هذا الأمر، وقال السدي: أراد يا أيها النائم، وقال غيره: كان هذا في ابتداء الوحي بالنبوة، والمدثر في ابتداء الوحي بالرسالة، ثم خوطب بعد ذلك بالنبي والرسول: { قم } أي في خدمتنا بحمل أعباء نبوتنا والازدمال بالاجتهاد في الاحتمال، واترك التزمل فإنه مناف للقيام.

ولما كان الاجتهاد في الخدمة دالاًّ على غاية المحبة، وكانت النية خيراً من العمل، وكان الإنسان مجبولاً على الضعف، وكان سبحانه لطيفاً بهذه الأمة تشريفاً لإمامها صلى الله عليه وسلم، رضى منا سبحانه بصدق التوجه إلى العمل وجعل أجورنا أكثر من أعمالنا، فجعل إحياء البعض إحياء للكل، فأطلق اسم الكل وأراد البعض فقال: { الليل } أي الذي هو وقت الخلوة والخفية والستر، فصل لنا في كل ليلة من هذا الجنس وقف بين يدينا بالمناجاة والأنس بما أنزلنا عليك من كلامنا فإنا نريد إظهارك وإعلاء قدرك في البر والبحر والسر والجهر، وقيام الليل في الشرع معناه الصلاة فلذا لم يقيده، وهي جامعة لأنواع الأعمال الظاهرة والباطنة، وهي عمادها، فذكرها دال على ما عداها.

السابقالتالي
2 3 4