الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَ وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَىٰ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي ٱلأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ وَأَقْرِضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

ولما كان ربما تغالى بعض الناس في العبادة وشق على نفسه، وربما شق على غيره، أشار سبحانه وتعالى إلى الاقتصاد تخفيفاً لما يلحق الإنسان من النصب، مشيراً إلى ما يعمل حالة اتصال الروح بالجسد وهي حالة الحياة، لأن منفعتها التزود من كل خير لما أدناه هول المقابر، فإن الروح في غاية اللطافة، والسجد في غاية الكثافة، لأنها من عالم الأمر، وهو ما يكون الإيجاد فيه بمرة واحدة من غير تدريج وتطوير والجسد من عالم الخلق فهي غريبة فيه تحتاج إلى التأنيس وتأنيسها بكل ما يقربها إلى العالم الروحاني المجرد عن علائق الأجسام، وذلك بصرف القلب كله عن هذه الدنايا والتلبس بالأذكار والصلوات وجميع الأعمال الصالحات، فإن ذلك هو المعين على اتصالها بعالمها العالي العزيز الغالي، وأعون ما يكون على ذلك الحكمة، وهي العدل في الأعمال والاقتصاد في الأقوال والأفعال، فقال مستأنفاً الجواب عن تيسير السبيل وبنائه على الحنيفية السمحة بحيث صار لا مانع منه إلا يد القدرة { إن ربك } أي المدبر لأمرك على ما يكون إحساناً إليك ورفقاً بك وبأمتك { يعلم أنك تقوم } أي في الصلاة كما أمرت به أول السورة.

ولما كانت كثرة العمل ممدوحة وقلته بخلاف ذلك، استعار للأقل قوله: { أدنى } أي زماناً أقل، والأدنى مشترك بين الأقرب، والأدون للأنزل رتبة لأن كلاًّ منهما يلزم منه قلة المسافة { من ثلثي الّيل } في بعض الليالي { ونصفه وثلثه } أي وأدنى من كل منهما في بعض الليالي - هذا على قراءة الجماعة، والمعنى، على قراءة ابن كثير والكوفيين بالنصب تعيين النصف والثلث الداخل تحت الأدنى من الثلثين، وهو على القراءتين مطابق لما وقع التخيير فيه في أول السورة بين قيام النصف بتمامه أو الناقص منه وهو الثلث أو الزائد عليه وهو الثلثان، أو الأقل من الأقل من النصف وهو الربع.

ولما ذكر سبحانه قيامه صلى الله عليه وسلم، أتبعه قيام أتباعه، فقال عاطفاً على الضمير المستكن في تقوم وحسنه الفصل: { وطائفة } أي ويقوم كذلك جماعة فيها أهلية التحلق بإقبالهم عليك وإقبال بعضهم على بعض. ولما كانت العادة أن الصاحب ربما أطلق على من مع الإنسان بقوله دون قلبه عدل إلى قوله: { من الذين معك } أي بأقوالهم وأفعالهم، أي على الإسلام، وكأنه اختار هذا دون أن يقول من المسلمين لأنه يفهم أن طائفة لم تقم بهذا القيام فلم يرد أن يسميهم مسلمين، والمعية أعم.

ولما كان القيام - على هذا التفاوت مع الاجتهاد في السبق في العبادة دالاً على عدم العلم بالمقادير ما هي عليه قال تعالى: { والله } أي تقومون هكذا لعدم علمكم بمقادير الساعات على التحرير والحال أن الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً وحده { يقدر } أي تقديراً عظيماً هو في غاية التحرير { الّيل والنهار } فيعلم كل دقيقة منهما على ما هي عليه لأنه خالقهما ولا يوجد شيء منهما إلا به

السابقالتالي
2 3 4