الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً } * { فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِيۤ إِلاَّ فِرَاراً } * { وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوۤاْ أَصَابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِمْ وَٱسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَٱسْتَكْبَرُواْ ٱسْتِكْبَاراً }

ولما كان صلى الله عليه وسلم أطول الأنبياء عمراً، وكان قد طال نصحه لهم وبلاؤه بهم، نبه على ذلك بقوله مستأنفاً: { قال } منادياً لمن أرسله لأنه تحقق أن لا قريب منه غيره، وأسقط أداة النداء كما هي عادة أهل القرب فقال: { رب } ولما كانت العادة جارية بأن التكرار لا بد أن يؤثر ولو قليلاً، فكانت مخالفتهم لذلك مما هو أهل لأن يشك فيه، قال مؤكداً إظهاراً لتحسره وحرقته عليه الصلاة والسلام منهم في تماديهم في إصرارهم على على التكذيب شكاية لحاله إلى الله تعالى واستنصاراً به واستمطاراً للتنبيه على ما يفعل به بذله الجهد وتنبيهاً لمن يقص به عليهم هذا وإن كان المخاطب سبحانه عالماً بالسر وأخفى: { إني دعوت } أي أوقعت الدعاء إلى الله سبحانه وتعالى بالحكمة والموعظة الحسنة { قومي } أي الذين هم جديرون بإجابتي لمعرفتهم بي وقربهم من وفيهم قوة المحاولة لما يريدون.

ولما كان قد عم جميع الأوقات بالدعاء قال: { ليلاً ونهاراً * } فعبر بهذا عن المداومة.

ولما تسبب عن ذلك ضد المراد قال: { فلم يزدهم دعاءي } أي شيئاً من أحوالهم التي كانوا عليها { إلا فراراً * } أي بعداً عنك ونفوراً وبغضاً وإعراضاً حتى كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة، وأسند الزيادة إلى الدعاء لأنه سببها.

ولما كان الفرار مجازاً عن رد كلامه، عطف عليه ما يبينه، فقال مؤكداً لأن إعراضهم مع هذا الدعاء الطويل مما لا يكاد يصدق: { وإني كلما } على تكرار الأوقات وتعاقب الساعات { دعوتهم } أي إلى الإقبال عليك بالإيمان بك والإخلاص لك.

ولما كان إعراضهم عما ينفعهم أقبح، ذكر ما يتسبب عن الإجابة بالإيمان فقال: { لتغفر لهم } أي ليؤمنوا فتمحو ما فرطوا فيه في حقك فأفرطوا لأجله في التجاوز في الحدود محواً بالغاً فلا يبقى لشيء من ذلك عيناً ولا أثراً حتى لا تعاقبهم عليه ولا تعاتبهم { جعلوا } أي في كل دعاء، ودل على مبالغتهم في التصامم بالتعبير بالكل عن البعض فقال: { أصابعهم } كراهة له واحتقاراً للداعي { في آذانهم } حقيقة لئلا يسمعون الدعاء إشارة إلى أنا لا نريد أن نسمع ذلك منك، فإن أبيت إلا الدعاء فإنا لا نسمع لسد أسماعنا، ودلوا على الإفراط في كراهة الدعاء بما ترجم عنه قوله: { واستغشوا ثيابهم } أي أوجدوا التغطية لرؤوسهم بثيابهم إيجاد من هو طالب لذلك شديد الرغبة فيه حتى يجمعوا بين ما يمنع السماع لكلامه والنظر إليه إظهاراً لكراهته وكراهة كلامه، وهكذا حال النصحاء مع من ينصحونه دائماً { وأصروا } أي داموا على سوء أعمالهم دواماً هم في غاية الإقبال عليه، من أصر الحمار على العانة - إذا صر أذنيه وأقبل عليها يطردها ويكدمها، استعير للإقبال على المعاصي وملازمتها لأنه يكون بغاية الرغبة كأن فاعله حمار وحش قد ثارت شهوته { واستكبروا } أي أوجدوا الكبر طالبين له راغبين فيه، وأكد ذلك بقوله: { استكباراً * } تنبيهاً على أن فعلهم منابذ للحكمة، فكان مما ينبغي أن لا يفعلوه فهو مما لا يكاد يصدق لذلك، وقد نادت هذه الآيات بالتصريح في غير موضع بأنهم عصوا نوحاً عليه الصلاة والسلام وخالفوه مخالفة لا أقبح منها ظاهراً بتعطيل الأسماع والأبصار، وباطناً بالإصرار والاستكبار ولم يوافقوه بقول ولا فعل، فلعنة الله عليهم وعلى من يقول: إنهم وافقوه بالفعل، لأنه دعاهم للمغفرة وقد غطوا وجوههم، والتغطية هي الغفر ونحو ذلك من الخرافات التي لو سمعها أسخف عباد الحجارة الذين لا أسخف منهم لهزؤوا بقائلها، وما قال هذا القائل ذلك إلا تحريفاً لكتاب الله بنحو تحريف الباطنية الذين أجمعت الأمة على تكفيرهم لذلك التحريف، ولعنة الله على من يشك في كفر من يحرف هذا التحريف أو يتوقف في لعنه، وهم الاتحادية الذين مرقوا من الدين في آخر الزمان، ومن أكابرهم الحلاج وابن عربي وابن الفارض، وتبعهم على مثل الهذيان أسخف الناس عقولاً

السابقالتالي
2