الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ } * { فَلآ أُقْسِمُ بِرَبِّ ٱلْمَشَٰرِقِ وَٱلْمَغَٰرِبِ إِنَّا لَقَٰدِرُونَ } * { عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } * { فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّىٰ يُلَٰقُواْ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِي يُوعَدُونَ } * { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ } * { خَٰشِعَةً أَبْصَٰرُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ ٱلْيَوْمُ ٱلَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ }

ولما كان معنى الاستفهام الإنكاري المفيد للنفي: لا يدخل، أكد ذلك مع إفهام الضجر والاستصغار بالإتيان بأم الزواجر والروادع فقال: { كلا } أي لا يكون ما طمعوا فيه أصلاً لأن ذلك تمن فارغ لا سبب له - بما دل عليه التعبير بالطمع دون الرجاء.

ولما كان الإنسان إذا أكثر من شيء وجعله ديدنه فساغ عندهم أن يقال: فلان خلق من كذا، علل ذلك بقوله مؤكداً، عدّاً لهم منكرين لأنهم مع علمهم بنقصانهم يدعون الكمال: { إنا } على ما لنا من العظمة { خلقناهم } بالعظمة التي لا يقدر أحد أن يقاويها فيصرف شيئاً من إرادته عن تلك الوجهة التي وجهته إليها إلى غيرها { مما يعلمون * } أي مما يستحي من ذكره ذاتاً ومعنى، أما الذات فهو نطفة مذرة أخرجت من مخرج البول وغذيناها بدم الحيض، فهي يتحلب منها البول والعذرة، وأما المعنى فالهلع والجزع والمنع اللاتي هم موافقون على عدها نقائص، فلا يصلحون لدار الكمال إلا بتزكية أنفسهم بما تقدم من هذه الخلال التي حض عليها الملك المتعال، روى البغوي بسنده عن بشر بن جحاش رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وبصق يوماً في كفه ووضع عليها أصبعه فقال: " يقول عز وجل: ابن آدم! أنّى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين والأرض منك وئيد وجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت: أتصدق، وأنّى أوان الصدقة " " انتهى.

ولما كان في ذكر هذا الخلق مع ما تقدم إشارة عظيمة إلى ما كانوا يقولون: إنه إن كان الأمر كما يقولون من الحشر والجنة لنكونن آثر عند الله منكم ولندخلنها كما نحن الآن آثر منكم عنده بما لنا من الأموال، والبسطة في الدنيا والوجاهة والإقبال، وتنبيه على أن الكل متساوون في أنهم من نطفة فما فضلهم في هذه الدنيا بهذه النعم الظاهرة إلا هو سبحانه، وقد فضل المؤمنين بالنعم الباطنة التي زادتهم في التمكن فيها التزكية بهذه الأوصاف العملية الناشئة عن الصفة العلمية، وهو قادر على أن يضم إلى النعم الباطنة النعم الظاهرة، ولذلك سبب عنه قوله: وأكد بنفي القسم المشير إلى عدم الحاجة إليه لكثرة الأدلة المغنية عنه لما لذلك المقسم عليه من الغرابة في ذلك الوقت لكثرة الكفار وقوة شوكتهم: { فلا } أي فتسبب عن خلقنا لهم من ذلك المنبه على أنا نقدر على كل شيء نريده وأنه لا يعجزنا شيء أي لا { أقسم } فلفت القول إلى أفراد الضمير معرى عن مظهر العظمة لئلا يتعنت متعنت في أمر الواحدانية { برب } أي مربي وسيد ومبدع ومدبر { المشارق } التي تشرق الشمس والقمر والكواكب السيارة كل يوم في موضع منها على المنهاج الذي دبره، والقانون القويم الذي أتقنه وسخره، ستة أشهر صاعدة وستة أشهر هابطة { والمغارب } كذلك على هذا الترتيب المحكم الذي لا يعتريه اختلال، وهي التي ينشأ عنها الليل والنهار والفصول الأربعة، فكان بها صلاح العالم بمعرفة الحساب وإصلاح المآكل والمشارب وغير ذلك من المآرب، فيوجد كل من الملوين بعد أن لم يكن والنبات من النجم والشجر كذلك عادة مستمرة دالة على أنه قادر على الإيجاد والإعدام لكل ما يريده كما يريده من غير كلفة ما.

السابقالتالي
2 3 4