الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } * { لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ } * { مِّنَ ٱللَّهِ ذِي ٱلْمَعَارِجِ } * { تَعْرُجُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } * { فَٱصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً }

لما ختم أمر الطامة الكبرى في الحاقة حتى ثبت أمره، وتساوى سره وجهره، ودل عليها حتى لم يبق هناك نوع لبس في وجوب التفرقة في الحكمة بين المحسن والمسيء، وختم بأن ترك ذلك مناف للكمال فيما نتعارقه من أمور العمال بعد أن أخبر أنه يعلم أن منهم مكذبين، وكان السائل عن شيء يدل على أن السائل ما فهمه حق فهمه، ولا اتصف بحقيقة علمه، عجب في أول هذه ممن سأل عنها فقال: { سأل } ودل على أنه لو لم يسأل عنها إلا واحد من العباد لكان جديراً بالتعجب منه والإنكار عليه بالإفراد في قوله: { سائل } وهو من السؤال في قراءتي من خفف بإبدال الهمزة ألفاً ومن همز.

ولما كان سؤالهم من وقت مجيء الساعة والعذاب وطلبهم تعجيل ذلك إنما هو استهزاء، ضمن " سأل " استهزاء ثم حذفه ودل عليه بحال انتزعها منه وحذفها ودل عليها بما تعدى به فقال، أو أنه حذف مفعول السؤال المتعدي " بعن " ليعم كل مسؤول عنه إشارة إلى أن من تأمل الفطرة الأولى وما تدعو إليه من الكمال فأطاعها فكان مسلماً فاضت عليه العلوم، وبرقت له متجليه أشعة الفهوم، فبين المراد من دلالة النص بقوله: { بعذاب } أي عن يوم القيامة بسبب عذاب أو مستهزئاً بعذاب عظيم جداً { واقع * } وعبر باللام تهكماً منهم مثل { فبشرهم بعذاب } فقال: { للكافرين } أي الراسخين في هذا الوصف بمعنى: إن كان لهم في الآخرة شيء فهو العذاب، وقراءة نافع وابن عامر بتخفيف الهمزة أكثر تعجيباً أي اندفع فمه بالكلام وتحركت به شفتاه لأنه مع كونه يقال: سال يسأل مثل خاف يخاف لغة في المهموز يحتمل أن يكون من سأل يسأل، قال البغوي: وذلك أن أهل مكة لما خوفهم النبي صلى الله عليه وسلم بالعذاب قالوا: من أهل هذا العذاب ولمن هو؟ سلوا عنه، فأنزلت.

ولما أخبر بتحتم وقوعه علله بقوله: { ليس له } أي بوجه من الوجوه ولا حيلة من الحيل { دافع * } مبتدىء { من الله } أي الملك الأعلى الذي لا كفؤ له فلا أمر لأحد معه، وإذا لم يكن له دافع منه لم يكن دافع من غيره وقد تقدم الوعد به، ودلت الحكمة عليه فتحتم وقوعه وامتنع رجوعه.

ولما كان القادر يوصف بالعلو، والعاجز يوصف بالسفول والدنو، وكان ما يصعد فيه إلى العالي يسمى درجاً، وما يهبط فيه إلى السافل يسمى دركاً، وكانت الأماكن كلها بالنسبة إليه سبحانه على حد سواء، اختير التعبير بما يدل على العلو الذي يكنى به عن القدرة والعظمة، فقال واصفاً بما يصلح كونه مشيراً إلى التعليل: { ذي المعارج * } أي الدرج التي لا انتهاء لها أصلاً - بما دلت عليه صيغة منتهى الجموع وهي كناية عن العلو، وسميت بذلك لأن الصاعد في الدرج يشبه مشية الأعرج، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها السماوات، ودل على ما دلت عليه الكثرة مع الدلالة على عجيب القدرة في تخفيفها على الملائكة بقوله: { تعرج الملائكة } أي وهم أشد الخلق وأقدره على اختراق الطباق، والإسراع في النفوذ حتى يكونوا أعظم من لمح البرق الخفاق { والروح } أي جبريل عليه السلام، خصه تعظيماً له، أو هو خلق هو أعظم من الملائكة، وقيل: روح العبد المؤمن إذا قبض { إليه } أي محل مناجاته ومنتهى ما يمكن من العلو لمخلوقاته، وعلق بالعروج أو بواقع قوله: { في يوم } أي من أيامكم، فيه آدمياً { خمسين ألف } وبين المشقة في صعوده أو الكون فيه إن أريد القيامة بأن قال: { سنة * } ولم يقل: عاماً - مثلاً، ويجوز أن يكون هذا اليوم ظرفاً للعذاب فيكون المراد به يوم القيامة، وأن يكون طوله على الكافر باعتبار ما يلحقه من الغم لشدة المخاوف عليه لأنه ورد أنه يخفف على المؤمن حتى يكون بمقدار صلاة واحدة - انتهى.

السابقالتالي
2