الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلْبَلَدُ ٱلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَٱلَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ } * { لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ إِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } * { قَالَ ٱلْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }

ولما كانت الموت موتين: حسياً ومعنوياً - كما أشير في الأنعام في آيةإنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله } [الأنعام: 36]أو من كان ميتاً فأحييناه } [الأنعام: 122] كان كأنه قيل: لا فرق في ذلك عندما بين أموات الإيمان وأموات الأبدان، فكما أنا فاوتنا بين جواهر الأراضي بخلق بعضها جيداً وبعضها رديئاً كذلك فاوتنا بين عناصر الأناسي بجعل بعضها طيباً وبعضها خبيثاً، فالجيد العنصر يسهل إيمانه، والخبيث الأصل يعسر إذعانه وتبعد استقامته وإيقانه { والبلد الطيب } أي الذي طابت أرضه فكانت كريمة منبتة { يخرج نباته } أي إذا نزل عليه الماء خروجاً كثيراً حسناً سهلاً غزيراً { بإذن } أي بتمكين { ربه } أي المربي له بما هيأه له، والذي طاب في الجملة ولم يصل إلى الغاية يخرج له نبات دون ذلك، والخبيث لا يخرج له نبات أصلاً بمنع ربه له { والذي خبث } أي حصلت له خباثة في جبلته بكون أرضه سبخة أو نحوها مما لا يهيئه الله تعالى للإنبات { لا يخرج } أي نباته { إلا } أي حال كونه { نكداً } أي قليلاً ضعيف المنفعة، وهو - مع كونه دالاً على أن ذلك ما كان على ما وصف مع استواء الأراضي في الأصل واستواء المياه ونسبتها إلى الأفلاك والنجوم إلا بالفاعل المختار - مثل ضربه سبحانه للمؤمن والكافر عند سماعهما للذكر من الكتاب والسنة، والآية من الاحتباك.

ولما استوت هذه الآيات على الذروة من بدائع الدلالات، كان السامع جديراً بأن يقول: هل تبين جميع هذه الآيات هذه البيان؟ فقيل: { كذلك } أي نعم، مثل هذا التصريف، وهو الترديد مع اختلاف الأنحاء لاختلاف الدلالات وإبرازها في قوالب الألفاظ الفائقة والمعاني الرائقة في النظوم المعجزة على وجوه لا تكاد تدخل تحت الحصر: { نصرف الآيات } أي كلها؛ ولما تم ذلك على هذا المنهاج الغريب والمنوال العجيب المذكر بالنعم في أسلوب دال على التفرد وتمام القدرة، كان أنسب الأشياء ختمه بقوله مخصصاً بها المنتفع لأنها بالنسبة إلى غيرهم كأنها لم توجد: { لقوم يشكرون* } أي يوجد منهم الشكر للنعم وجوداً مستمراً فلا يشركون بل ينتفعون بما أنعم عليهم به وحده في عبادته وحده، وينظرون بعقولهم أنه أقدرهم بنعمه على ما هم عاجزون عنه، فلا يسلبون عنه شيئاً من قدرته على بعث ولا غيره فإنهم يزعمون أنهم أهل معالي الأخلاق التي منها أنه ما جزاء الإحسان إلاّ الإحسان.

ولما طال تهديده سبحانه لمن أصر على إفساده، ولم يرجع عن غيّه وعناده بمثل مصارع الأولين ومهالك الماضين، ونوَّع في هذه الآيات محاسن الدلالات على التوحيد والمعاد بوجوه ظاهرة وبينات قاهرة وبراهين قاطعة وحجج ساطعة، ساق سبحانه تلك القصص دليلاً حسياً على أن في الناس الخبيث والطيب مع الكفالة في الدلالة على تمام القدرة والغيرة من الشرك على تلك الحضرة - بتفصيل أحوال من سلفت الإشارة إلى إهلاكهم وبيأن مصارعهم وأنه لم تغن عنهم قوتهم شيئاً ولا كثرتهم بقوله تعالى

السابقالتالي
2 3