الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ } * { يَٰبَنِيۤ ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ ٱلتَّقْوَىٰ ذٰلِكَ خَيْرٌ ذٰلِكَ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } * { يَابَنِيۤ ءَادَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ ٱلشَّيْطَانُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ ٱلْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَآ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا ٱلشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ }

ولما علم بهذا أن للكون في الأرض آخراً، وكان من الفلاسفة التناسخية وغيرهم ممن يقر بالوحدانية من يقول: إن النفوس مجردة عن الجسمية وعلائقها وإنه إذا هلك الجسد اتصلت بالعلويات إما بكوكب أو غيره أو انحطت في سلك الملائكة وبطل تعلقها بالبدن من كل وجه فلا تتصل به لا بتدبير ولا غيره ولا بالبعث - عند من قال منهم بالبعث، كان كأنه قيل: فماذا يكون بعد ذلك؟ فأجيب بقوله { قال } أي الله راداً عليهم ما يعتقدون من بطلان التعلق بالبدن معبراً بالخطاب بالضمير الذي يعبر عن هذا الهيكل المخصوص روحاً وجسداً { فيها } أي الأرض لا في غيرها { تحيون } أي أولاً وثانياً على ما أنتم عليه بظواهركم وبواطنكم أبداناً وأرواحاً { وفيها } أي كذلك، لا في غيرها كما أنتم لذلك مشاهدون { تموتون } أي من الحياة الأولى بجملتكم، فيكون للأرواح تعلق بالأبدان بوجه ما حتى يقعد الميت في القبر ويجيب سؤال الملكين عليهما السلام، وتلتذ الأجساد بلذتها وتتألم بتألمها، فأشير إلى الحشر مع تفصيل حال الكون في الأرض، وختمت القصة بما ابتدئت به من الإعلام بالبعث بقوله: { ومنها } أي لا من غيرها بإخبار الصادق { تخرجون* } أي روحاً وبدناً بعد موتكم فيها وعودكم إلى ما كنتم عليه أولاً تراباً، للجزاء وإظهار ثمرة الملك بإنصاف بعضكم من بعض والتحلي بصفة العدل فما كان بعضكم يفعل مع بعض من العسف والجور الذي لا يرضي أقل رؤسائكم أن يقر عليه عبيده، وعلم بهذا أن الدلالة على الحشر فذلكة القصة، وهذا أبين من ذكره فيما مضى في قولهفلنسئلن الذين أرسل إليهم } [الأعراف: 6].

ولما بين فيما مضى أن موجب الإخراج من الجنة هو ما أوجب كشف السوءة من المخالفة وفرغ مما استتبعه حتى أخبره بأنه حكم بإسكاننا هذه الدار بعد تلك الدار، شرع يحذرنا من عدونا كما حذر أبانا عليه السلام، وبدأ بقوله بياناً لأنه أنعم علينا فيها بكل ما يحتاج إليه في الدين والدنيا وإيذاناً بما في كشف العورة من الفضيحة والإبعاد عن كل خير وإشعاراً بأن التستر باب عظيم من أبواب التقوى { يا بني آدم }.

ولما كان الكلام في كشف العورة، وأن آدم عليه السلام أعوزه الساتر حتى فزع إلى الورق، كان موضع أن يتوقع ما يكون في ذلك فقال مفتتحاً بحرف التوقع: { قد أنزلنا } أي بعظمتنا { عليكم } من آثار بركات السماء، إما ابتداء بخلقه وإما بإنزال أسبابه لمطر ونحوه { لباساً } أي لم يقدر عليه أبوكم في الجنة { يواري سوءاتكم } إرشاداً إلى دواء ذلك الداء وإعلاماً بأن نفس الكشف نقص لا يصلح لحضرات الكمال، وقال: { وريشاً } إشارة إلى أنه سبحانه زادنا على الساتر ما به الزينة والجمال استعارة من ريش الطائر، محبباً فيما يبعد من الذنب ويقرب إلى حضرة الرب.

السابقالتالي
2 3 4