الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ الۤمۤصۤ } * { كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ }

لما ذكر سبحانه في آخر التي قبلها أنه أنزل إليهم كتاباً مباركاً، وأمر باتباعه وعلل إنزاله وذكر ما استتبعه ذلك مما لا بد منه في منهاج البلاغة وميدان البراعة، وكان من جملته أن أمر المدعوين به ليس إلا إليه، إن شاء هداهم وإن شاء أضلهم واستمر فيها لا بد منه في تتميم ذلك إلى أن ختم السورة بما انعطف على ما افتتحت به، فاشتد اعتناقه له حتى صارا كشيء واحد؛ أخذ يستدل على ما ختم به تلك من سرعة العقاب وعموم البر والثواب وما تقدمه، فقال مخبراً عن مبتدإ تقديره: هو { كتاب } أي عظيم أوضح الطريق المستقيم فلم يدع بها لبساً ولم يذر خيراً إلا أمر به ولا شراً إلا نهى عنه، فإنزاله من عظيم رحمته؛ ثم وصفه بما أكد ما أشار إليه من رحمته بقوله: { أنزل إليك } أي وأنت أكرم الناس نفساً وأوسعهم صدراً وأجملهم قلباً وأعرقهم إصالة وأعرفهم باستعطاف المباعد واستجلاب المنافر المباغض، وهذا شيء قد خصك به فرفعك على جميع الخلق درجات لا تحصى ومراتب لا حد لها فتستصى.

ولما كان المقصود من البعثة أولاً النذارة للرد عما هم عليه من الضلال، وكانت مواجهة الناس بالإنذار شديدة على النفوس، وكان الإقدام عليها من الصعوبة بمكان عظيم؛ قدم قوله مسبباً عن تخصيصه بهذه الرحمة: { فلا يكن } وعبر عن القلب بمسكنه الذي هو أوسع منه مبالغة في الأمر فقال: { في صدرك حرج } أي شيء من ضيق بهم أو خوف أو نحو ذلك { منه } على ما تعلق بـ " أنزل " من قوله: { لتنذر به } أي نذري لكل من بلغه أو للمخالفين من سرعة العقاب على نحو ما أوقع سبحانه بالقرون الماضية والأمم السابقة - كما أشار إليه آخر الأنعام، وسيقص من أخبارهم من هذه السورة { و } لتنذر به { ذكرى } أي عظيمة { للمؤمنين* } أي بالبشر والمواعظ والغفران والرحمة على ما أشار إليه ختام الأنعام، وحذف المفعول يدل على عموم الرسالة لكل من أمكن إنذاره وتذكيره من العقلاء، ويجوز أن تتعلق لام " لتنذر " بمعنى النهي، أي انف الحرج لكذا، فإن من كان منشرح الصدر أقدم على ما يريد أو يحرج، أي لا يكن الحرج الواقع لأجل أن تنذر، أي لأجل إنذارك به، والنهي للنبي صلى الله عليه وسلم، حُوّل إلى الحرج مبالغة وأدباً، ويجوز أن يكون التقدير: لتنذر به وتذكر به، فإنه نذرى للكافرين وذكرى للمؤمنين، والآية على كل تقدير من الاحتباك: إثباته " لتنذر " أولاً، دال على حذف " لتذكر " ثانياً، وإثبات المؤمنين ثانياً دال على حذف المخالفين أولاً، فإن النفوس على قسمين: نفوس بليدة جاهلة بعيدة عن عالم الغيب غريقة في طلب اللذات الجسمانية والشهوات الحيوانية فبعثة الرسل في حقهم إنذار وتخويف، ونفوس شريفة مشرقة بالأنوار الإلٰهية فبعثة الرسل في حقهم تذكير لأن هذه النفوس بمقتضى جواهرها الأصلية وجبلتها الخلقية مستعدة للانجذاب إلى عالم القدس إلا أنه ربما غشيها غواش من عالم الأجساد فيعرض لها نوع ذهول وغفلة، فإذا سمعت دعوة الأنبياء واتصلت بها أنوار أرواح رسل الله تذكرت مركزها وأبصرت منشأها، فاشتاقت إلى ما حصل هناك من الروح والريحان فطارت نحوهم كل مطار فتمحضت لديها تلك الأنوار؛ وقال أبو حيان: واعتلاق هذه السورة بما قبلها هو أنه لما ذكر تعالى قوله:

السابقالتالي
2 3 4