الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } * { قَالَ ٱخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَّدْحُوراً لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ } * { ويَآءَادَمُ ٱسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّالِمِينَ } * { فَوَسْوَسَ لَهُمَا ٱلشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ ٱلْخَالِدِينَ }

ولما كان قد أقام نفسه في ذلك بغاية الجد، فهو يفعل فيه بالوسوسة بنفسه ومن أطاعه من شياطين الجن والإنس ما يفوت الحد ويعجز القوى، أشار إليه بحرف التراخي فقال مؤكداً: { ثم لآتينهم } أي إتياناً لا بد لي منه كائناً ابتداؤه { من بين أيديهم } أي مواجهة، فأحملهم على أن يفعلوا ما يعلمون أنه خطأ { و } كائناً { من خلفهم } أي مغافلة، فيعملون ما هو فاسد في غاية الفساد ولا شعور لهم بشيء من فساده حين تعاطيه فأدلهم بذلك على تعاطي مثله وهم لا يشعرون { وعن } أي ومجاوزاً للجهة التي عن { أيمانهم } إليهم { وعن } أي ومجاوزاً لما عن { شمائلهم } أي مخايلة، فيفعلونه وهو مشتبه عليهم، وهذه هي الجهات التي يمكن الإتيان منها، ولعل فائدة " عن " المفهمة للمجاوزة وصل خطى القدام والخلف ليكون إتيانه مستوعباً لجميع الجهة المحيطة، وأفهمت الجهات الأربع قدحه وتلبيسه فيما يعلمونه حق علمه وما يعلمون شيئاً منه وما هو مشتبه عليهم اشتباهاً قليلاً أو كثيراً، وهم من ترك ذكره الأعلى أنه لا قدرة له على الإتيان منه لئلا يلتبس أمره بالملائكة، وقد ذكر ذلك في بعض الآثار كما ذكره في ترجمة ورقة بن نوفل رضي الله عنه.

ولما عزم اللعين على هذا عزماً صادقاً ورأى أسبابه ميسرة من الإنظار ونحوه، ظن أنه بما راى لهم من الشهوات والحظوظ يظفر بأكثر حاجته، فقال عاطفاً على تقديره: فلأغوينهم وليتبعنني: { ولا تجد أكثرهم } كما هي عادة الأكثر في الخبث { شاكرين* } فأريد به الشقاء فأغرق في الحسد، ولو أريد بالشقي الخير لاستبدل بالحسد الغبطة فطلب أن يرتقي هو إلى درجاتهم العالية بالبكاء والندم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبذل النصيحة خضوعاً لمقام الربويية وذلاً لعظيم شأنه.

ولما كان كأنه قيل: ماذا قال له؟ قيل: { قال } في جواب ما ذكر لنفسه في هذا السياق من القوة والاقتدار وأبان عنه من الكبر والافتخار ما دل على أنه من أهل الصغار، لا يقدر على شيء إلا بإقرار العزيز الجبار، مصرحاً بما أريد من الهبوط الذي ربما حمل على النزول من موضع من الجنة عال إلى مكان منها أحط منه { اخرج منها } أي الجنة { مذءوماً } أي محقوراً مخزياً بما تفعل، قال القطاع: ذأمت الرجل: خزيته، وقال ابن فارس: ذأمته، أي حقرته { مدحوراً } أي مبعداً مطروداً عن كل ما لا أريده.

ولما علم بعض حاله، تشوفت النفس إلى حال من تبعه، فقال مقسماً مؤكداً بما يحق له من القدرة التامة والعظمة الكاملة: { لمن تبعك منهم } أي بني آدم، وأجاب القسم بما أغنى عن جواب الشرط فقال: { لأملأن جهنم منكم } أي منك ومن قبيلك ومنهم { أجمعين* } أي لا يفوتني منكم أحد، فلم يزل من فعل ذلك منكم على أذى نفسه ولا أبالي أنا بشيء.

السابقالتالي
2 3