الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَمَّا سُقِطَ فِيۤ أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } * { وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَٰنَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيۤ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى ٱلأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ٱبْنَ أُمَّ إِنَّ ٱلْقَوْمَ ٱسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ ٱلأَعْدَآءَ وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّٰلِمِينَ } * { قَالَ رَبِّ ٱغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ }

ولما كان هذا في سياق { ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين } فأنتج أن من كذب على هذه الصفة أهلك، فانتظر السامع الإخبار بتعجيل هلاكهم، أخبر بأنه منعهم من ذلك وحرسهم المبادرة بالتوبة، ولما اشتد من تشوف السامع إليه، قدمه على سببه وهو رجوع موسى عليه السلام إليهم وإنكاره عليهم، ولأن السياق في ذكر إسراعهم في الفسق لم يذكر قبول توبتهم كما في البقرة؛ ولما كان من المعلوم أنهم تبين لهم عن قرب سوء مرتكبهم لكون نبيهم فيهم، عبر بما أفهم أن التقدير: فسقط في إيديهم، وعطف عليه قوله سائقاً مساق ما هو معروف: { ولما سقط } أي سقطت أسنانهم { في أيديهم } بعضها ندماً سقوطاً كأنه بغير اختيار لما غلب فيه من الوجد والأسف الذي أزال تأملهم ولذلك بناه للمفعول { ورأوا أنهم قد ضلوا } أي عن الطريق الواضح { قالوا } توبة ورجوعاً إلى الله كما قال أبوهم آدم عليه السلام { لئن لم يرحمنا ربنا } أي الذي لم يقطع قط إحسانه عنا فكيف غضبه ويديم إحسانه { ويغفر لنا } أي يمحو ذنوبنا عيناً وأثراً لئلا ينتقم منا في المستقبل { لنكونن من الخاسرين* } أي فينتقم من بذنوبنا.

ولما أخبر بالسبب في تأخير الانتقام عنهم مع مساواتهم لمن أوقعت بهم النقمة في موجب الانتقام، أخبر سبحانه بحال موسى عليه السلام معهم عند رجوعه إليهم من الغضب لله والتبكيت لمن خالفه مع ما اشتمل عليه من الرحمة والتواضع فقال: { ولما رجع موسى } أي من المناجاة { إلى قومه غضبان } أي في حال رجوعه لما أخبره الله تعالى عنهم من عبادة العجل { أسفاً } أي شديد الغضب والحزن { قال بئسما } أي خلافة خلافتكم التي { خلفتموني } أي قمتم مقامي وفعلتم مقامي وفعلتم خلفي.

ولما كان هذا ربما أوهم أنهم فعلوه من روائه وهو حاضر في طرف العسكر، قال: { من بعدي } أي حيث عبدتم غير الله أيها العبدة، وحيث لم تكفوهم أيها الموحدون بعد ذهابي إلى الجبل للمواعدة الإلهية وبعد ما سمعتم مني من التوحيد لله تعالى وإفراده عن خلقه بالعبادة ونفي الشركاء عنه، وقد رأيتم حين كففتكم وزجرتكم عن عبادة غيره حين قلتم { اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة } ومن حق الخلفاء أن يسيروا سيرة المستخلف ولا يخالفوه في شيء.

ولما كان قد أمرهم ان لا يحدثوا حدثاً حتى يعود إليهم، أنكر عليهم عدم انتظاره فقال: { أعجلتم } قال الصغاني في المجمع: سبقتم، وقال غيره: عجل عن الأمر - إذا تركه غير تام، ويضمن معنى سبق، فالمعنى: سابقين { أمر ربكم } أي ميعاد الذي ما زال محسناً إليكم، أي فعلتم هذا قبل بلوغ أمر الموعد الذي زاد فيه ربي وهو العشرة الأيام برجوعي إليكم إلى حده، فظننتم أني مت فغيرتم كما غيرت الأمم بعد موت أنبيائها، قال الإمام أبو عبد القزاز أيضاً: عجلتم: سبقتم، ومنه تقول: عجلت فلاناً سبقته، وأسنده ابن التياني إلى الأصمعي { وألقى الألواح } أي التي فيها التوراة غضباً لله وإرهاباً لقومه، ودل هذا على أن الغضب بلغ منه حداً لم يتمالك معه، وذلك في الله تعالى { وأخذ برأس أخيه } أي بشعره { يجره إليه } أي بناء على أنه قصر وإعلاماً لهم بأن الغضب من هذا الفعل قد بلغ منه مبلغاً يجل عن الوصف، لأنه اجتثاث للدين من أصله.

السابقالتالي
2