الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } * { قَالَ فَٱهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَٱخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ ٱلصَّاغِرِينَ } * { قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } * { قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ } * { قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ }

ولما كان مخالف الملك في محل العقاب، تشوف السامع إلى خبره فأجيب بقوله: { قال } أي لإبليس إنكاراً عليه توبيخاً له استخراجاً لكفره الذي كان يخفيه بما يبدي من جوابه ليعلم الخلق سبب طرده { ما منعك } ولما كانت هذه العبارة قد صرحت بعدم سجوده، فكان المعنى لا يلبس بإدخال " لا " في قوله: { ألا تسجد } أتى بها لتفيد التأكيد بالدلالة على اللوم على الامتناع من الفعل والإقدام على الترك، فيكون كأنه قيل: ما منعك من السجود وحملك على تركه { إذ } أي حين { أمرتك } أي حين حضر الوقت الذي يكون فيه أداء المأمور به { قال } أي إبليس ناسباً ربه سبحانه إلى الجور أو عدم العلم بالحق { أنا خير منه } أي فلا يليق لي السجود لمن هو دوني ولا أمري بذلك لأنه مناف للحكمة؛ ثم بين وجه الخيرية التي تصورها بسوء فهمه أو بما قاده إليه سوء طبعه بقوله: { خلقتني من نار } أي فهي أغلب أجزائي وهي مشرفة مضيئة عالية غالبة { وخلقته من طين* } أي هو أغلب أجزائه وهو كدر مظلم سافل مغلوب، وقد غلط غلطاً فاحشاً فإن الإيجاد خير من الإعدام بلا نزاع، والنار سبب الإعدام والمحق لما خالطته، والطين سبب النماء والتربية لما خالطه،هذا لو كان الأمر في الفضل باعتبار العناصر والمبادىء وليس كذلك، بل هو باعتبار الغايات.

ولما كان هذا أمراً ظاهراً، وكان مجرد التكبر على الله كفراً على أيّ وجه كان، أعرض عن جوابه بغير الطرد الذي معناه نزوله المنزلة الذي موضع ما طلب من علوها فاستأنف قوله { قال } مسبباً عن إبائه قوله: { فاهبط منها } مضمراً للدار التي كان فيها وهي الجنة. فإنها لا تقبل عاصياً، وعبر بالهبوط الذي يلزم منه سقوط المنزلة دون الخروج، لأن مقصود هذه السورة الإنذار وهو أدل عليه، وسبب عن أمره بالهبوط الذي معناه النزول والحدور والانحطاط والنقصان والوقوع في شيء منه قوله: { فما يكون } أي يصح ويتوجه بوجه من الوجوه { لك أن تتكبر } أي تتعمد الكبر وهو الرفعة في الشرف والعظمة والتجبر، ولا مفهوم لقوله { لك } ولا لقوله { فيها } لوجود الصرائح بالمنع من الكبر مطلقاًإنه لا يحب المستكبرين } [النحل: 23]،كذلك يطبع الله على قلب كل متكبر } [غافر: 35]قال الذين استكبروا إنا كل فيها } [غافر: 48]، وإنما قيد بذلك تهويلاً للأمر، فكأنه قيل: لا ينبغي التكبر إلا لنا، وكلما قرب الشخص من محل القدس الذب هو مكان المطيعين المتواضعين جل تحريم الكبر عليه " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل كبر " رواه مسلم وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه، وسبب عن كونها لا تقبل الكبر قوله: { فاخرج } أي من الجنة دار الرضوان، فانتقى أن يكون الهبوط من موضع عال من الجنة إلى موضع منها أحط منه، ثم علل أمره بالهبوط والخروج بقوله مشيراً إلى كل من أظهر الاستكبار ألبس الصغار: { إنك من الصاغرين* } أي الذين هم أهل للطرد والبعد والحقارة والهوان.

السابقالتالي
2