الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَالَ مُوسَىٰ يٰفِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } * { حَقِيقٌ عَلَىٰ أَنْ لاَّ أَقُولَ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } * { قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } * { فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } * { وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ } * { قَالَ ٱلْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَـٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ }

ولما كان التقدير عطفاً على { فظلموا بها }: ووضعها موسى مواضعها، عبر عنه بقوله: { وقال موسى يا فرعون } خاطبه بما يعجبه امتثالاً لأمر الله تعالى له أن يلين في خطابه، وذلك لأن فرعون لقب مدح لمن ملك مصر.

ولما أتاهم عليه السلام وهم عارفون بأمانته وصدقه وعظم مكانته ومكارم أخلاقه وشريف عنصره وعظيم مخبره، وفرعون أعظمهم معرفة به لأنه ربي في حجره، كان هذا حالاً مقتضياً لأن يلقي إليهم الكلام غير مؤكد، لكن لما كان الإرسال من الله أمراً عظيماً جداً، وكان المقصود به تخلية سبيل بني إسرائيل، وكان فرعون ضنيناً بذلك، أكده بعض التأكيد فقال: { إني رسول } ثم بين مرسله بقوله: { من رب العالمين* } أي المحسن إليهم أجمعين - وأنتم منهم - بإيجادهم وتربيتهم، فهو تنبيه لمن سمعه على أن فرعون مربوب مقهور.

ولما خلفه مما يدعيه من الربوبية دالاً على تسويته ببقية العالمين: ناطقهم وصامتهم، وكان لذلك بعيداً من الإذعان لهذا الكلام، أتبعه قوله على وجه التأكيد مستأنفاً بيان ما يلزم للرسول: { حقيق } أي بالغ في الحقية، وهي الثبات الذي لا يمكن زواله { على أن لا أقول على الله } أي الذي له جميع الكمال، ولا عظمة لسواه ولا جلال { إلا الحق } أي الثابت الذي لا تمكن المماراة فيه اصلاً لما يصدقه من المعجزات، وحاصل العبارة ومآلها: حق على قولي الذي أطلقه على الله أن لا يكون إلا الحق أي غير الحق، ولذلك عبر بالاسم الأعظم الجامع لجميع الصفات، وقراءة نافع بتشديد ياء الإضافة في { على } بمعنى هذا سواء، لأن من حق عليه شيء حق على كلامه.

ولما كان الحال إذ ذاك يقتضي توقع إقامة موسى عليه السلام البينة على صحة رسالته كان كأنه قيل: ما دليل صدقك؟ فقال مفتتحاً بحرف التوقع والتحقيق: { قد جئتكم } أي كلكم، لا أخص أحداً منكم { ببينة } دليلاً على رسالتي وقولي الحق { من ربكم } أي المحسن إليكم بكل نعمة ترونها لديكم من خلقكم وزرقكم وكف الأمم عن انتزاع هذا الملك منكم وإهلاككم، وتلك البينة هي المعجزة، فكرر البيان في هذا الكلام على أن فرعون ليس كما يدّعي لأنه مربوب، لا فرق بينة وبين بقية العالمين في ذلك.

ولما كان من المعلوم أن مثله في تمام عقله وشرف خلائقه لا يدّعي في تلك المجامع إلا حقاً مع ما نبه عليه من البيان على تفرد الله بالإلهية كما تفرد بالإحسان، كان كأنه أظهر البينة التي أقلها كفهم عن إهلاكهم. فأتبع ذلك طلب النتيجة إعلاماً بغاية ما يريد منهم بقوله مسبباً عن مجرد هذا الإخبار الذي كان قد أوقع مضمونه: { فأرسل } أي يا فرعون { معي بني إسرائيل* } أي فسبب إقامتي الدليل على صحة ما قلته أن أمُر بما جئت له - وهو إرسالهم معي - أمر من صار له سلطان بإقامة البينة لنذهب كلنا إلى بيت المقدس موطن آبائنا التي أقسم الله لهم أن يورثها أبناءهم، وفي جعل ذلك نتيجة الإرسال إليه تنبيه على أن رسالته مقصورة على قومه، فكأنه قيل: فماذا قال فرعون في جواب هذا الأمر الواضح؟ فقيل: { قال } معرضاً عنه معمياً له خوفاً من غائلته عند من يعرف موسى عليه السلام حق المعرفة معبراً بأداة الشك إيقافاً لهم: { إن كنت جئت بآية } أي علامة على صحة رسالتك { فأت بها } فأوهم أنه لم يفهم إلا أن المراد أنه سيقيمها من غير أن يكون في كلامه السابق دلالة على صدقه، وأكد الإبهام والشك بقوله: { إن كنت } أي جبلة وطبعاً { من الصادقين* } أي في عداد أهل الصدق العريقين فيه لتصح دعواك عندي وتثبت.

السابقالتالي
2 3