الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ } * { سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ } * { أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ } * { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ } * { خَٰشِعَةً أَبْصَٰرُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ وَهُمْ سَٰلِمُونَ }

ولما نفى دليل العقل والنقل مع التعجب منهم والتهكم بهم، وكان قد بقي أن الإنسان ربما عاهد غيره على شيء فيلزمه الوفاء به وإن كان خارجاً عما يدعو إليه العقل والنقل، نفى ذلك بقوله: { أم لكم أيمان } أي غليظة جداً { علينا } قد حملتمونا إياها { بالغة } أي لأجل عظمها إلى نهاية رتب التأكيد بحيث يكون بلوغ غيرها ما يقصد بالنسبة إلى بلوغها ذلك عدماً أي أن بلوغها هو البلوغ لا غيره، أو ثباتها منته { إلى يوم القيامة } لا يمكن الخروج عن عهدتها إلا في ذلك اليوم ليحتاج لأجلها إلى إكرامكم في الدارين.

ولما ذكر ذلك القسم بالأيمان ذكر المقسم عليه فقال: { إن لكم } أي خاصة دون المسلمين { لما تحكمون * } أي تفعلونه فعل الحاكم الذي يلزم قوله لعلو أمره على وجه التأكيد الذي لا مندوحة عنه فتحكمون لأنفسكم بما تريدون من الخير.

ولما عجب منهم وتهكم بهم، ذيل ذلك بتهكم أعلى منه يكشف عوارهم غاية الكشف وينزل بهم أشد الحتف، فقال مخوفاً لهم بالإعراض: { سلهم } أي يا أيها الرسول الذي محت دلائله بقوة أنوارها الأنوار.

ولما كان السؤال سبباً لحصول العلم علقت، " سل " على مطلوبها الثاني وكان حقه أن يعدى بعن فقال: { أيهم بذلك } أي الأمر العظيم من المعاهدة والدليل النقلي والعقلي { زعيم * } أي كفيل وضامن أو سيد أو رئيس أو متكلم بحق أو باطل لتلزمه في ادعائه صحة ذلك ما تدعه به ضحكة للعباد، وأعجوبة للحاضر منهم والباد، فلم يجسر لما تعلمون من حقية هذا القرآن وما لأقوالهم كلها من العراقة في البطلان أحد منهم على شدة عداوتهم ومحبتهم للمغالبة وشماختهم أن يبرز لادعاء ذلك، ولما نفى أن يكون لهم منه سبحانه في تسويتهم بالمسلمين دليل عقلي أو نقلي أو عهد وثيق على هذا الترتيب المحكم والمنهاج الأقوم، أتبعه ما يكون من عند غيره إن كان ثم غير على ما ادعوا فقال: { أم لهم شركاء } أي شرعوا لهم من الدين أمراً ووعدوهم بشيء أقاموا عليه من الأدلة ما أقمنا لنبينا صلى الله عليه وسلم { فليأتوا بشركائهم } أي بأقوالهم وأفعالهم كما أتينا نحن في نصر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الأمرين معاً بما لا شبهة فيه، وسجل عليهم بالكتاب ملهباً مهيجاً بما يحرق به أكبادهم ولا يقدرون على دفعه بوجه، فيكون ذلك أعظم دليل على إبطالهم: فقال: { إن كانوا } أي جبلة وطبعاً { صادقين * } أي عريقين في هذا الوصف كما يدعونه، ولما نفى جميع شبههم التي يمكن أن يتشبثوا بها مع البيان لقدرته على ما يريد من تفتيق الأدلة وتشقيق البراهين الدال على تمام العلم اللازم منه كمال القدرة فأوصلهم من وضوح الأمر إلى حد لم يبق معه إلا العناد، أتبع ذلك تهديدهم بما يثبت ذلك قدرته عليه من يوم الفصل ومعاملتهم فيه بالعدل فقال: { يوم } يجوز أن يكون بياناً ليوم القيامة، وبنى لإضافته إلى الجملة وأن يكون ظرفاً ليأتوا، أو منصوباً بما أخذ من معنى الكلام من نحو: سيعلمون ما يلقون من غب هذه المعاملات وإن نالوا في هذه الدار جميع اللذات في جميع اليوم الذي { يكشف } أي يحصل الكشف فيه، وبني للمفعول لأن المخيف وقوع الكشف الذي هو كناية عن تفاقم الأمور وخروجها عن حد الطوق، لا كونه من معين، مع أن من المعلوم أنه لا فاعل هناك غيره سبحانه { عن ساق } أي يشتد فيه الأمر غاية الاشتداد لأن من اشتد عليه الأمر وجد في فصله شمر عن ساقه لأجله وشمرت حرمه عن سوقهن غير محتشمات هرباً، فهو كناية عن هذا ولذلك نكره تهويلاً له وتعظيماً، نقل هذا التأويل عن ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير رضي الله عنه وغيرهما، وعن انكشاف جميع الحقائق وظهور الجلائل فيه والدقائق من الأهوال وغيرها كما كشفت هذه الآيات جميع الشبه وتركت السامع لها في مثل ضوء النهار، وفي الجزء الخامس والثلاثين من مسند أبي يعلى الموصلي عن أبي بردة عن أبيه رضي الله عنه تعالى عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا قال:

السابقالتالي
2 3