الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } * { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ فَإِن تَولَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ } * { ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ } * { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَٱحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

ولما كان من تعرفه من المرغبين والمرهبين لا يفعل ذلك إلا فيما ليس قادراً على حفظه وضبطه حتى لا يحتاج العامل في عمل ذلك إلى رقيب يحفظه ووكيل يلزمه ذلك العمل ويضبطه، وكان قول المنافقين المتقدم في الإنفاق والإخراج من المصائب، وكانت المصائب تطيب إذا كانت من الحبيب، قال جواباً لمن يتوهم عدم القدرة متمماً ما مضى من خلال الأعمال بالإيمان بالقدر خيره وشره، مرغباً في التسليم مرهباً من الجزع قاصراً الفعل ليعم كل مفعول: { ما أصاب } أي أحداً يمكن المصائب أن تتوجه إليه، وذكر الفعل إشارة إلى القوة، وأعرق في النفي بقوله: { من مصيبة } أيّ مصيبة كانت دينية أو دنيوية من كفر أو غيره { إلا بإذن الله } أي بتقدير الملك الأعظم وتمكينه، فلا ينبغي لمؤمن أن يعوقه شيء من ذلك عن التقوى النافعة في يوم التغابن.

ولما تسبب عن ذلك ما تقديره: فمن يكفر بالله بتقديره عليه الكفر يغو قلبه ويزده ضلالاً فيفعل ما يتوغل به في المصيبة حتى تصير مصائب عدة فتهلكه، عطف عليه قوله باعثاً على أول ركني الإسلام وهو إصلاح القوة العلمية: { ومن يؤمن بالله } أي يوجد الإيمان في وقت من الأوقات ويجدده بشهادة إن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله بسبب الملك الأعظم وتقديره وإذنه { يهد قلبه } أي يزده هداية بما يجدده له من التوفيق في كل وقت حتى يرسخ إيمانه فتنزاح عنه كل مصيبة، فإنه يتذكر أنها من الله وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه فيسلم بقضائه فيصبر له ويفعل ويقول ما أمر الله به ورسوله فيخف عليه، ولا يعوقه عن شيء من المنجيات في يوم التغابن، بل يحصل له بسببها عدة أرباح وفوائد، فتكون حياته طيبة بالعافية الشاملة في الدينيات والكونيات لأن بالعافية في الكونيات تطيب الحياة في الدنيا، وبالعافية في الدينيات تطيب الحياة في الآخرة فتكون العيشة راضية، وذلك بأن يصير عمله صواباً في سرائه وضرائه فيترك كل فاحشة دينية بدنية وباطنة قلبية ويترك الهلع في المصائب الكونية كالخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات وذلك لأنه بصلاح القلب ينصلح البدن كله.

ولما كان التقدير تعليلاً لذلك: فاللّه على كل شيء قدير فهو لا يدع شيئاً يكون إلا بإذنه، عطف عليه قوله: { والله } أي الملك الذي لا نظير له { بكل شيء } مطلقاً من غير مثنوية { عليم * } فإذا تحقق من هدى قلبه ذلك زاح كل اعتقاد باطل من كفر أو بدعة أو صفة خبيثة. ولما كان التقدير: فاصبروا عن هجوم المصائب، عطف عليه قوله تحذيراً من أن يشتغل بها فتوقع في الهلاك وتقطع عن أسباب النجاة دالاً على تعلم أمور الدين من معاداتها مشيراً إلى أن العبادة لا تقبل إلا بالاتباع لا بالابتداع: { وأطيعوا الله } أي الملك الأعلى الذي له الأمر كله فافعلوا في كل مصيبة ونائبة تنوبكم وقضية تعروكم ما شرعه لكم، وأكد بإعادة العامل إشارة إلى أن الوقوف عند الحدود ولا سيما عند المصائب في غاية الصعوبة فقال: { وأطيعوا الرسول } أي الكامل في الرسلية - صلى الله عليه وسلم - فإنه المعصوم بما خلق فيه من الاعتدال وما زكى به من شق البطن وغسل القلب مراراً، وما أيد به من الوحي، فما كانت الأفعال بإشارة العقل مع الطاعة لله والمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم في كل إقدام وإحجام كانت معتدلة، سواء كانت شهوانية أو غضبية، ومتى لم تكن كذلك كانت منحرفة إلى أعلى وإلى أسفل فكانت مذمومة، فإن الله تعالى بلطف تدبيره ركب في الإنسان قوة غضبية دافعة لما يهلكه ويؤذيه، وقوة شهوانية جالبة لما ينميه ويقويه، فاعتدال الغضبية شجاعة ونقصها جبن وزيادتها تهور، فالناس باعتبارها جبان وشجاع ومتهور، واعتدال الشهوانية عفة ونقصانها زهادة وزيادتها شره، والناس باعتبارها زهيد وعفيف وشره، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، وميزان العدل متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما شرعه، فبذلك تنزاح الفتن الظاهرة والباطنة، ولا طريق إلى الله إلا بما شرعه، وكل طريق لم يشرعه ضلال من الكفر إلى ما دونه، ثم سبب عن أمره ذلك قوله معبراً بإداة الشك إشارة إلى البشارة بحفظ هذه الأمة من الردة ومشعراً بأن بعضهم يقع منه ذلك ثم يقرب رجوعه أو هلاكه: { فإن توليتم } أي كلفتم أنفسكم عندما تدعو إليه الفطرة الأولى من الإعراض عن هذا النور الأعظم والميل إلى طرف من الأطراف المفهومة من طرفي القصد فما على رسولنا شيء من توليكم { فإنما على رسولنا } أضافه إليه على وجه العظمة تعظيماً له وتهديداً لمن يتولى عنه { البلاغ المبين * } أي الظاهر في نفسه المظهر لكل أحد أنه أوضح له غاية الإيضاع ولم يدع لبساً، ليس إليه خلق الهداية في القلوب.

السابقالتالي
2 3 4