الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمِينَ } * { قُلْ إِنَّ ٱلْمَوْتَ ٱلَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } * { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }

ولما كان التقدير: فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم امتثالاً لأمرنا ذلك، فلم يتمنوه في الوقت الحاضر، تصديقاً منا لنبوته وتعجيزاً وتحقيقاً لمعجزات رسالته، دل على هذا المقدر بما عطف عليه من قوله الدال قطعاً على صدقه بتصديقهم له بالكف عما أخبر أنهم لا يفعلونه: { ولا يتمنونه } أي في المستقبل، واكتفى بهذا في التعبير بلا لأن المذكور من دعواهم هنا أنهم أولياء لا كل الأولياء فهي دون دعوى الاختصاص بالآخرة، وأيضاً الولاية للتوسل إلى الجنة، ولا يلزم منها الاختصاص بالنعمة بدليل أن الدنيا ليست خالصة للأولياء المحقق لهم الولاية، بل البر والفاجر مشتركون فيها. ولما أخبر بعدم تمنيهم، وسع لهم المجال تحقيقاً للمراد فقال: { أبداً } وعرف أن سببه معرفتهم بأنهم أعداء الله فقال: { بما قدمت } ولما كان أكثر الأفعال باليد، نسب الكل إليها لأنها صارت عبارة عن القدرة فقال: { أيديهم } أي من المعاصي التي أحاطت بهم فلم تدع لهم حظاً في الآخرة بعلمهم.

ولما كان التقدير تسبباً عن هذا: لئلا يقولوا: سلمنا جميع ما قيل في الظالمين لكنا لسنا منهم فاللّه عليم بهم في أفعالهم ونياتهم، عطف عليه قوله معلقاً بالوصف تعميماً وإعلاماً بأن وصف ما قدموا من الظلم { والله } أي الذي له الإحاطة بكل شيء قدرة وعلماً { عليم } أي بالغ العلم محيط بهم - هكذا كان الأصل، ولكنه قال: { بالظالمين * } تعميماً وتعليقاً بالوصف لا بالذات، فالمعنى أنه عالم بأصحاب هذا الوصف الراسخين فيه منهم ومن غيرهم فهو يجازيهم على ظلمهم وهم يعلمون ذلك، وأعظم مصدق الله - ومن أصدق من الله قيلاً - في هذا أنهم ما قوتلوا قط إلا أرزوا إلى حصونهم وقراهم كما مر في سورة الحشر، فدل ذلك على أنهم أحرص على الحياة الدنيا من الذين أشركوا كما مر في سورة البقرة فإنهم عالمون بأنهم يصيرون إلى النار، والعرب يظنون أنهم لا يبعثون فهم لا يخافون ما بعد الموت وهم شجعان يقدمون على الموت كما قال عنترة بن شداد العبسي:
بكرت تخوفني المنون كأنني   أصبحت عن عرض الحتوف بمعزل
فأجبتها أن المنية منهل   لا بد أن أسقى بذاك المنهل
فافني حياك لا أبا لك واعلمي   أني امرؤ سأموت إن لم أقتل
ولما كان عدم تمنيهم علم من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم لموافقته ما أخبر به، وكان ذلك فعل من يعتقد أن التمني يقدمه عن أجله وعدمه يؤخره، فصاروا بين التكذيب بما عندهم ونهاية البلادة، أمره صلى الله عليه وسلم بتنبيههم على بلادتهم تبكيتاً لهم فقال: { قل } وأكد إعلاماً لهم بأنه يلزم من فعلهم هذا إنكار الموت الذي لا ينكره أحد فقال: { إن الموت } وزاد في التقريع والتوبيخ بقوله: { الذي تفرون منه } أي بالكف عن التمني الذي هو أيسر ما يكون مع أنه يوصلكم إلى تكذيب من أنتم جاهدون في تكذيبه، وأكد وقوعه بهم لأن عملهم عمل من هو منكر له، وربطه بالفاء جعلاً لفرارهم كالسبب له، فإن الجبن من أسباب الموت مع ما يكسب من العار كما قال: " إن الجبان حتفه من فوقه " أي هو غالب عليه غلبة العالي على السافل فقال: { فإنه ملاقيكم } أي مدرككم في كل وجه سلكتموه بالظاهر أو الباطن.

السابقالتالي
2 3 4